يحتفظ الزمن بما نمرّ به من حكايات، وتبقى الصورة هي الوسيط الذي يستدعي ما ينام في الذاكرة، لأنها اللغة العالمية التي لا تحتاج إلى ترجمان. منذ ظهور السينما، كانت الصورة قادرة على أن تنقل الإنسان من ضيق اللحظة إلى اتساع العالم، وأن تُحيي ما توارى خلف غبار السنين. وهكذا بدا Desert Warrior منذ مشاهده الأولى: محاولة لإحياء سردٍ عربي عبر عدسة عالمية، وبلغة إنجليزية تسعى إلى إعادة تقديم قصة قديمة في إطار بصري جديد، يُرى لا يُروى. ولذلك لا يجوز أن يُقرأ الفيلم كعمل عربي يُحاكَم عربيًا، بل كخطوة إنتاجية تكشف عن رغبة في أن تُسمع الحكاية للعالم من خلال أدوات مختلفة، وبحجم لم يكن مُتاحًا من قبل. ثمة وعي يتشكل في هذه البلاد بقيمة القصص العربية، ورغبة صادقة بأن تُعرض على شاشات العالم بأعلى المستويات الممكنة، وهذه الرغبة لم تعد مجرد حلم؛ بل أصبحت خطة عمل تتقاسمها جهات عديدة: هيئة الأفلام، وصندوق جودة الحياة، ومناطق التصوير في تبوك ونيوم والعلا أيضا، واستديوهات MBC التي وضعت بصمتها الفخمة على هذا المشروع. كل هذا يضعنا أمام عمل يستحق بالفعل كل هذا الوقت من الانتظار، لأنه ليس فيلمًا فحسب، بل إعلانًا عن هوية سينمائية سعودية آخذة في التشكل خطوة بخطوة. الأرض: بطلة الفيلم لم تكن الصحراء في Desert Warrior خلفيةً محايدة، بل جاءت بوصفها الشخصية الأكثر ثباتًا، كأن المخرج لم يكن يبحث عن المشاهد فحسب، بل عن الذاكرة نفسها. الضوء الذي ينساب على تضاريس المملكة بهذا الاتساع يثبت أن للمكان حضوره، حتى كأن الصورة تقول للحكاية: “أنتِ على كفّي… فاطمئني”. لقد عرف العالم صحارٍ كثيرة من قبل: صحارى إفريقيا، وأمريكا، والمغرب العربي، والأردن، ولكن الصحراء السعودية - بهذا الصفاء والبكرية - تبدو كأنها الممثّل الذي لم يُكتشف بعد. وبقدر ما يُقال عن قوة الأداء أمام الكاميرا، من قبل الفنانين العالمين الكبار في دور كسرى (بين كينغسلي) مثلا، وماذا عليك أن تقوله حين تعلم أن ممثلا بهذا الحجم أدّى على ترابك؟ فأي قوة وأثر، ويعادل هذا القوة والأثر جمال المكان حين يظهر بهذا السحر. إنه حضورٌ يضبط إيقاع الفيلم، ويمنحه هويته، ويذكّر المشاهد بأن الأرض ليست فراغًا، بل ذاكرة، وبدايات قصص لم تُحكَ بعد، أو حُكيت وتنتظر مَن يعيد سردها. ولعل أجمل ما فعله الفيلم أنه أعاد للمكان مكانته؛ فالموقع السينمائي لم يعد مجرد “لوكيشن”، بل أصبح شخصية، وذخيرة بصرية تفتح الباب أمام موجة جديدة من الأفلام العالمية التي يمكن أن تُصوَّر هُنا، فعلى هذه الأرض ما يستحق أن يراه العالم. هند: مهرة عربية تحمل قصة الأميرة هند بنت النعمان (عائشة هارت) بذور مقاومة واضحة، في محاولة لاستعادة لحظة عربية تُقال فيها “لا” في وجه قوة الفرس الغاشمة، فتظهر هند بصورة المهرة العربية الأصيلة؛ لا تُعسَف، ولا يروّضها كل من هب ودب، بل تبقى عصية، متمرّدة، ناطقة باسم الكبرياء العربي القديم، فهذه الشخصية ليست مجرد دور، بل رمز لقيمة يعرفها العرب جيدًا: قيمة الكرامة حين تُهدَّد، وقد كرر المخرج في العرض الأول للفيلم بمهرجان البحر الأحمر الدولي ما جذبه في القصة، واشتغالها على الكرامة، وهو ما تم توكيده، وحسبنا من هذا الفيلم تلك القيمة العربية التي لا بد أن تعلى، وتأخذ مكانها بين الأمم. يعتمد الفيلم على معادلة سينمائية غربية مألوفة، ينتصر فيها الخيال لعلاقة بين الأميرة واللص، وهو ما يجعل المشاهد بحاجة إلى التحرر من المحلية، والنظر للعمل من زاوية المتلقي العالمي، فالفيلم، في جوهره، فيلم حركة واستعراض، يُروى من أجل المتعة البصرية الخالصة، وذكاء السرد، والمفاجأة في التفاصيل التي قدّمها المخرج روبرت وايت بمعاييره العالمية، فلن تنصدم من مشهد الضباع، بل ستصفق حتما عند كل انتصار، لأن كل مقومات الفيلم السينمائية من دهشة بصرية، وهندسة صوتية، تجعل عينيك في تحد لأطول مدة دون أن ترمشان! وكأننا نستعيد حكايات المساء العربية، ومحاولات السرد، والتأهب لكل مفاجأة في الحكاية، لنقفز سنوات ضوئية بحكاية عربية، إطارها عالمي لا يلغي هويتها، ولكنه يتيح لها أن تُرى خارج حدودها، كما هي هند: فاتنة، حكيمة، وقائدة لتحالف القبائل العربية أمام قوة تفوقها عددًا وعدّة. وربما يكون هذا أحد أهم مكاسب الفيلم: أنه لا يعيد تقديم شخصية هند كما هي في ذاكرة التراث فقط، بل كما يمكن أن يراها العالم اليوم: امرأة قوية، تُحاصَر فتنتصر، وتُهدَّد فترفع رأسها. الإنتاج : الباب الموارب بعد تصوير فيلم قندهار لريك رومان في السعودية، يأتي Desert Warrior الأقرب إلى قلب الحكاية العربية ؛ ليثبت أن المكان قادر على احتضان إنتاج ضخم، وأن القصص العربية قابلة للعرض عالميًا حين تُروى بأدوات مختلفة، فالطريق - مهما طال - يبدأ بمحاولات أولى، ونحن الآن على عتبة هذه المحاولات. الباب ما زال مواربًا؛ والمشاهد السعودي بات ينتظر بشغف ليس الفيلم نفسه فقط، بل المكان الذي سيظهر فيه؛ لأن ثمَّة متعة خاصة أن تمرّ بعد مشاهدة الفيلم بالموقع الذي شاهدته على الشاشة الكبيرة، فهذه المتعة ليست مجرد انبهار، بل استثمار ثقافي وسياحي واقتصادي يُضاعف قيمة الفيلم، ويفتح آفاقًا لمشاريع لا حدّ لها. Desert Warrior بداية خطوة تختصر المسافة بين الحكاية وصورتها، ونافذة تُفتح من جديد أمام السينما السعودية كي ترى العالم، وتُري العالم. وبين الصورة والحكاية، يبقى الأمل بأن القادم سيحمل نضجًا أكبر، ورؤى أوسع، وأفلامًا تُصنع على هذه الأرض، وتُعرض في كل مكان.