لوحة “الحلم” في الغرفة للفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، سيريالية إلى حد ما بسبب وجود هيكل عظمي يرقد فوق سقف سريرها. رسمت تلك اللوحة أثناء علاقتها المضطربة مع زوجها، حيث كانت تتقلب بأوجاعها بين المرض الشديد، والخوف من الموت المترصد بها، وهي تداوي ألم خيانة الحبيب زوجها. فريدا لم تكن ميسورة الحال، ولم تمتلك شهرة عظيمة، إلا بعد وفاتها، أصبحت مشهورة وصارت أيقونة بلدها المكسيك الجميلة، ولوحاتها تقدر اليوم بملايين الدولارات، وفي الشهر الماضي نوفمبر 2025، بيعت لوحتها “الحلم” في الغرفة ب 54.66 مليون دولار، في مزاد عالمي في نيويورك، وتعد أغلى قيمة لوحة لامرأة فنانة على الإطلاق. كانت اللوحة تجسد حالة تلك الفنانة التشكيلية، التي اشتهرت برسم البورتريهات الذاتية، والتي ظلت منشغلة في رسم نفسها لسنين عديدة، بسبب وضعها الصحي.. كانت تحمل أوجاعها بجلد عجيب، وهي تزاول الفن وأدوارها كناشطة نسوية وشيوعية عتيدة، كانت إحدى نصيرات الثورات التي اندلعت في مطلع النصف الأول من القرن المنصرم في بقع مختلفة من العالم، لمقاومة القهر والاستعمارالغربي والدكتاتورية، فالوقوف بجانب القضايا الإنسانية بالنسبة لها، كان سلوكا إلزاميا، وتوجها عابرا لكل القيود، والحدود، والأمم. سيرة الفنانة الذاتية تعج بأمثلة رائعة للثبات والإصرار على الحياة، والاستمتاع بجمالياتها، بالرغم من كل الأوجاع والآلام والانكسارات التي عانت منها، منذ نعومة أظافرها وطوال سنينها، المليئة بالهزائم الشخصية، حتى فارقتها الحياة.. رحلتها مع الألم.. “الحلم في الغرفة” وما فيها من سيرة وجع لازمها منذ مرحلة الطفولة، حين أصيبت فريدا بشلل الأطفال، وعانت كثيرا بسبب تشوه في رجلها، لذلك كانت ترتدي التنورات الطويلة وتمشي بخجل، وربما لذلك السبب قررت أن تدرس الطب، وبالفعل حصلت على قبول في اعرق جامعة في مدينة المكسيك، لكن لم تكتمل فرحتها، فالنهايات المفرحة ليست في أجندتها، ولم يطرق بابها الحظ السعيد حين تحتاجه، فقد تعرضت لحادث أليم، وهي في الحافلة التي تقلها، وتهشمت معظم عظامها، واخترق عامود جسمها، وهي ابنة الثامنة عشر عاما، مما جعلها طريحة الفراش لفترات طويلة من الزمن، فمقولتها المشهورة “ القدمان لماذا أريدهما، طالما لدي أجنحة لأطير؟” اختصرت حالتها الصحية انذاك في تلك العبارة. رحلتها الفنية.. بداية علاقتها بالفرشاة والألوان، وولادة حلمها في الغرفة، كانت على فراش المرض، بعد الحادث تمددت عل السرير وهي مجبسة الظهروالرجلين، فوضعت لها والدتها مرآة كبيرة في السقف، وجلبت لها ألوانا ولوحات وفرشا، وبدأت فريدا ترسم نفسها يوميا، وحين سئلت لماذا كثير من لوحاتها بوتريهات ذاتية قالت بوجع: “أرسم نفسي لأنني الشخص الذي أعرفه أكثر”، ومع أنها لم تدرس الرسم أكاديميا، لكن فنها خلد اسمها إلى الأبد، ويقال: من رحم الألم يولد الإبداع؟ وأي إبداع هو ذاك الذي صنعته فريدا.. كانت وحيدة وبائسة، وتتوجع كثيرا جسديا ونفسيا، وانعكس كل ذلك على فنها، فقد كان الرسم هو الساحة المفتوحة لها بدون قيود، لكي تنطلق منها، وتعبر عن ذاتها ومشاعرها ومآساتها. وهي مستلقية على السرير، الخيالات فتحت لها عوالم جديدة، وجعلتها تحلق بعيدا خارج حيطان غرفتها البائسة، وصارت توثق كل التفاصيل، وتدفقها بوجع على اللوحات البيضاء البليدة، وتملأها باحساسيها المجروحة، ربما تُعد فريدا هي اكثر فنانة رسمت نفسها، قرابة ال٥٤ لوحة. رحلتها إلى أمريكا.. سافرت مع زوجها إلى أمريكا في رحلة فنية بدعوة خاصة، وعاشا في سان فرانسيسكو، ومن ثم انتقلا إلى نيويورك، وديترويت، وتلقت علاجها هناك، حيث أجريت لها عدة عمليات، ولكن مشاكلها الصحية لم تقل، بل تفاقمت. حملت ثلاث مرات وأجهضت، بسبب إصابة في الحوض، فالجنين لا يستقر في رحمها المعطوب، وعبرت عن تلك الأمنية الميتة، وحرمانها من الإنجاب في لوحة “مستشفى هنري فورد” وهي ممددة على الفراش، والألم يعصر فؤادها المعلق في الفراغ. وبعد أن سئمت من الحياة في أمريكا، عادت إلى بلدها، ولحق بها زوجها فيما بعد. رحلتها إلى باريس.. تدهورت علاقتها بزوجها أكثر، لأنه لازال يلاحق النساء العابرات دون اكتراث لمشاعرها، فانتقلت إلى باريس، وعاشت لعام تقريبا، وعرضت لوحاتها هناك. كانت رحلة هروب من ماضي مرير، وحبيب لا يحترم وجودها، ولا يحس بحبها له. نهاية “الحلم في الغرفة” بعد أن عادت من فرنسا إلى بلدها ولزوجها، حيث أعيتها الغربة والحلم الذي لازال سجيناً في الغرفة، فساءت حالتها الصحية، وأصيبت بغرغرينا وبتر ساقها، وصارت مقعدة على كرسي متحرك، لكن تعلقها بحلمها وبالفرشاة والألوان ازداد، وكأنها تعلم أن حياتها قصيرة. أقيم لها معرض خاص، قبل أن تتوفى بسنة، وأصرت على حضور حفل الافتتاح، فنقلت إلى المعرض بسيارة اسعاف، ودخلت صالة العرض على سرير، فهي أول فنانة تحمل على الأكتاف تشريفا، لها، ومراعاة لوضعها الصحي. بعدها تعرضت لكآبة حادة، ويقال إنها حاولت الانتحار بسبب ازدياد آلامها، وانتشار الغرغرينا في جسمها، ومن ثم أصيبت “بنمونيا “سائل في الرئة، وضيق تنفس، وكان السبب الذي أدى إلى وفاتها، والحلم غادر غرفتها إلى الأبد.. وصية فريدا مع وصية زوجها.. أوصيا ان لا تفتح ممتلكاتهما الخاصة، ولا تكشف للملأ إلا بعد مرور خمسين عاما من رحيلهما عن هذا العالم، وبالفعل هذا ما حدث. فتحت دواليب فريدا في عام ٢٠٠٤، ووجدوا كل مقتنياتها وصورا توثق حياتها، والآن كلها معروضة للسواح في بيتها، فصاحبة “ الحلم في الغرفة” كان لها بيت أنيق في حيها، مطلي بلون غارق في الزرقة، عاشت وماتت فيه، وأصبح اليوم مزارا سياحياً في مدينة المكسيك، يرتاده عشرات الآلاف من السواح كل عام. يحتوي على كل ممتلكاتها، ورماد جثتها، وأشيائها الخاصة، وحتى رسائل الحب التي كتبتها للرجل الذي أحبته من كل قلبها وتزوجته، دييغو ريفيرا، الفنان المكسيكي الذي طبع وجهه على العملة تكريما لفنه .. اقتباسات لفريدا “أنا أشرب حتى أُغرق كآبتي، لكن الأشياء اللعينة تعلمت كيف تطفو.” “ في نهاية اليوم.. يمكننا أن نتحمل أكثر بكثير مما نعتقد أننا نستطيع.” “في حياتي كان هناك حادثان كبيران.. الأول الحافلة، والثاني دييغو.. ودييغو كان الأسوأ بكثير”. “لا أرسم أحلاما ولا كوابيس. أنا أرسم واقعي الخاص.” “أنت تستحق الأفضل.. وأفضل الأفضل، لأنك واحد من القلائل في هذا العالم الرديء، الذين ما زالوا صادقين مع أنفسهم، وهذا هو الشيء الوحيد الذي فعليا يُحسب.”