الملف العلاقي.

‎بينما كنت أتجول في أحد الاسواق بالرياض، توقفت عند رفوف المستلزمات المكتبية، فوقعت عيني على ذلك الملف الأخضر الذي كنا نسميه “الملف العلاقي”. بدا كتحفة صغيرة خرجت من زمن آخر، زمن كنا نظن أن معاملاته لا تسير إلا إذا حمل المواطن تحت إبطه ملفاً ممتلئاً بالصور والأختام والتواقيع. وما إن رأيته حتى عادت الذاكرة بي أكثر من عقدين، إلى تلك الأيام التي كان طالب الوظيفة أو الملتحق بالتعليم أو المراجع لأي جهة حكومية أو خاصة يبدأ أول شروطه بشراء هذا الملف. كانت الورقة الواحدة تحتاج رحلة، والمستند الواحد يحتاج تأكيداً، والملف كله يحتاج فهرسة مرتبة يراجعها الموظف ورقة ورقة، فإن زادت المستندات على عشر بدأ الطلب بإعداد فهرس مرقم، ومع كل فهرسة رحلة جديدة إلى المكتبة، وكل رحلة وقت يُقتطع من عمر المراجع. ‎ولم تكن حكاية الملف العلاقي مجرد أوراق تُرتب، بل كانت مشاهد يومية تختزن في الذاكرة. كم من مراجعٍ رأيته واقفاً عند باب الجهة الحكومية يقلب ملفه بقلق خشية أن يكون قد نسي ورقة واحدة، وكم من شاب عاد أدراجه لأنه لم يُحضر “صورة طبق الأصل” التي اكتشف فقدانها متأخراً، وكم من موظف كان يفتح الملف ويتنهد قبل أن يقول جملته المعتادة: “الفهرس وينه؟”، وكأن الفهرسة جواز المرور الوحيد. كان الناس يحملون معهم ليس فقط مستنداتهم، بل توتراً صغيراً يرافقهم من طابور لآخر، ومن مكتب إلى مكتب، في دائرة من الجهد لا تُشبه شيئاً من حياتنا اليوم. ‎ذلك العالم الورقي كان يبدو لنا طبيعياً؛ لم نكن نعرف غيره، ولم نكن نتصور أن يأتي يوم تختفي فيه الأرفف الثقيلة، والطوابير، والأقلام التي جفت من كثرة التوقيع. واليوم، وأنا أرى الملف العلاقي مستنداً على الرف كشيء من الذاكرة، أدركت حجم القفزة التي حدثت دون ضجيج، وكيف تغير شكل تعاملنا مع الدولة والمؤسسات. كل ما كان يتطلب أوراقاً ونسخاً وصوراً وختم “طبق الأصل” صار يُنجز بضغطة زر، وكل ما كان يستنزف الصباح كاملاً صار يُنجَز في دقائق، وأنت جالس في منزلك تحتسي قهوتك. ‎لم نعد نحتاج إلى ذلك الملف الذي كنا نحمل معه قلقاً صغيراً بأن تسقط ورقة، أو تضيع أخرى، أو نعود من شباك الموظف بخط أحمر يطلب “استكمال النواقص”. اليوم يمكن للمواطن أن ينجز شؤونه المالية والقانونية والعقارية من هاتفه، وأن يحضر جلسة قضائية وهو في مكتبه أو مجلس منزله، وأن يوقع، ويستعلم، ويدفع، ويعترض، دون أن يخوض تلك الرحلة الطويلة التي كانت تبدأ بالمكتبة وتنتهي عند باب الجهة الحكومية. لقد تحولت التقنية من أداة رفاهية إلى جزء أصيل من احترام وقت الإنسان وكرامته، وإلى لغة يومية لا يستغني عنها أحد. ‎تأملت الملف العلاقي كثيراً قبل أن أتركه مكانه. لم أره مجرد مستلزم مكتبي، بل رأيته شاهداً على مرحلة كاملة من حياتنا الإدارية؛ مرحلة مضت دون أن نلتفت إليها كثيراً لأنها كانت جزءاً من بديهياتنا. واليوم، ونحن نعيش هذا التحول الرقمي الهائل، ندرك أنه لم يكن صدفة، ولا خطوة معزولة، بل نتيجة رؤية حكيمة سخّرت التقنية لخدمة المواطن، وفتحت أمامه أبواباً جديدة لإنجاز أعماله دون عناء. ودون ملف كان يحتاج رحلة، وتقنية تختصر الزمن، تتأكد العلاقة العميقة بين التطوير الحقيقي وصناعة المستقبل الذي نعيش تفاصيله كل  يوم، ولله الحمد والمنة ، ثم لحكومتنا الرشيدة كل الشكر والتقدير على تذليل ما كان من صعوبات، حتى  أصبحت من مخلفات الماضي.