فاتحة: “نُرَتِّبُ هَزَائِمَنَا عَلَى حَافَّةِ الزَّمَن”.

فِي النُّصُبِ الْمُعْتِمَةِ، أَرَى صُوَرًا تَنْزِفُ مِنْ صُدُوعِ الْحَجَرِ، مَرَّةً تَتَدَثَّرُ بِصَمْتِ الْمَجَاعَاتِ، وَأُخْرَى تَتَفَتَّتُ عَلَى كَوَاكِبَ بَارِدَةٍ. كُلُّ هَذِهِ النُّصُبِ مَمَرَّاتٌ تُسْقِطُ أَسْمَاءَهَا فِي الْغُرْبَةِ، نَحْنُ نَحْتَكِمُ لِظِلِّهَا، لِنَرَى الْوُجُوهَ تَتَجَوْهَرُ فِي الْعَتَمَةِ كَأَنَّهَا خُيُوطُ سَرَابٍ. هُنَاكَ يَتَفَتَّحُ جُرْحٌ يَحْلُمُ بِرَائِحَةِ الْحُبِّ، أَوْ غُصْنٌ يَرْتَجِفُ تَحْتَ فَجْوَةِ الْغُيُومِ. هُنَاكَ أَرْجُوحَةٌ تُفَكِّكُهَا الْمَوَاعِيدُ، وَهَذَا الْيَبَاسُ الْمُمْتَدُّ يَمُرُّ فِي كَفِّ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَنْفَجِرَ السَّرَابُ، وَقَبْلَ أَنْ يَنْدَسَّ خَدِيعَةُ الْفَجْرِ فِي لَيْلٍ مُنْهَكٍ. دَوِيٌّ يَسْبِقُ نَبْضَ الْأُفُقِ، وَخُطًى تَتَخَثَّرُ فِي جَسَدِ الطُّرُقَاتِ، سَرِيرٌ مُثْقَلٌ بِأَحْلَامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَفَجْرٌ يَسْتَعِيرُ أَجْنِحَتَهُ مِنْ رُعْبٍ مُتَدَلٍّ. كَانَتْ أَشْبَاحُهُمْ تُسَابِقُ السَّاعَةَ، وَالأَرْضُ تَتَرَنَّحُ تَحْتَ هَوَاءٍ يَحْمِلُ مَوْتَهَا، وَالسَّمَاءُ أَكْفَانٌ تَتَسَاقَطُ فِي حَنَاجِرِ الرِّيَاحِ. أَصَابِعُ تَتَبَعْثَرُ بَيْنَ لَغْطِ الْحَدِيدِ، وَأُخْرَى تَغْرِفُ الْعِطْرَ مِنْ أُفُقٍ مَذْبُوحٍ، فَلَا رَحْبَةٌ تَسْتَقْبِلُ الْغُرْبَاءَ، وَلَا لُغَةٌ تُسْعِفُ الدَّمَ. لَمْ نُخْلِفْ عَهْدَ الأُمِّ وَهِيَ تَحْضُنُ جُرْحَهَا، حِينَ تَفَتَّتَ الْجَمِيعُ فِي نَاصِيَةِ الْفَجْرِ، تَبَدَّدَ حَلِيبُ السِّنِينَ فِي صُدُورِ الْحَقُولِ، وَتَفَجَّرَ صَوْتُ الْغَضَبِ مِنْ حِبْرٍ وَكِتَابٍ. صَرَخْنَا مَعَ الرِّيحِ، ثُمَّ حَمَلَتْنَا عَوَاصِفُ الشَّمَالِ، وَبَدَأْنَا نَلْتَفُّ بِشُرُودِ الْمَضَارِبِ، نَسْتُرُ النَّزِيفَ بِأَيْدِينَا، وَنَذْرُ أَسْلِحَتَنَا لِلتُّرَابِ. اتْرُكُوا الْحُقُولَ تَخْتَارُ أَغَانِيهَا، وَالْبِحَارُ تَرْسُمُ أَبْنَاءَهَا، وَاتْرُكُونَا نَرْتِّبُ مَرَاجِعَ أَيَّامِنَا لِغَدٍ لَا يُفَاصِلُ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَجُرْحٍ. سَقْفُنَا فُقَاعَاتٌ تَتَفَجَّرُ فِي وَهْمٍ مَكْشُوفٍ، وَطِينُنَا يَحْفَظُ أَسْرَارَ النَّخِيلِ الَّذِي لَا يَمُوتُ. اتْرُكُونَا نَصْطَلِحُ مَعَ آخِرَ الشُّمُوعِ، لَا تَخْذُلُوا غَيْمًا يَعْشَقُ التُّرَابَ. اتْرُكُونَا نَدْفِنُ أَحْلَامَنَا فِي جَبَلٍ وَاهِنٍ، بِصَمْتٍ يَتَعَثَّرُ فِي آخِرِ الْأُغْنِيَاتِ، نُكَفِّنُ هَذَا الزَّمَانَ بِنَدْبَةٍ مُنِيرَةٍ، لِيَبْكِيَ الْمَنْسِيُّ قَدَرَهُ وَهُوَ يَتَدَاعَى عَلَى سُلَّمٍ مُثْقَلٍ بِثَلْجٍ وَصَحَارَى. لَا الْمَسَافَاتُ الْبَعِيدَةُ تَحْجُبُ الضَّوْءَ، لَا الْحُلْمُ الْمَغْدُورُ يَسْتَسْلِمُ لِلْعَتَمَةِ، لَيْلٌ طَوِيلٌ يُعَرِّي نَفْسَهُ، وَيَسْتَدْرِجُ الْحُبَّ إِلَى سِرٍّ مَصْلُوبٍ فِي قَلْبِ الْحِرَابِ. يَدُ أُمٍّ تُشِيرُ إِلَى جِسْرٍ، يَسْحَبُنَا مِنْ غِيَابٍ لِغِيَابٍ، مَنْ يَضُمُّ أَثَرَ الرِّيحِ قَبْلَ أَنْ يَتَسَاقَطَ الشِّرَاعُ الْمُمَزَّقُ فِي نَهْدِ الْقَلْبِ؟ هُنَاكَ بِلَادٌ تُصَافِحُ عَاصِفَتَهَا، وَحُلْمٌ يَشْتَعِلُ فِي رَمَادٍ دَائِمٍ. الْمَكَانُ يَبْخَلُ بِغَضَبِهِ، وَالزَّمَانُ يَبْدِّلُ ثِيَابَهُ، وَاللَّيْلُ يَسْقُطُ كَضَبَابٍ. * لدخيل الخليفة يشد وثاق وعيه؛ يحصي جروحه ويستدرج الليل الطويل ليعري الوجوه الدميمة.