السعوديةُ .. من دولة نفط إلى دولة إنتاج.

ليس كل رقمٍ يُعلن يستحق أن يُقرأ، لكن هناك أرقاماً تُشبه لحظة انفتاح التاريخ على صفحةٍ جديدة. و ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 19.4% في الربع الثالث من عام 2025 هو واحد من تلك الأرقام التي لا تمرّ مروراً عابراً، بل تُعلن أمام العالم أن المملكة العربية السعودية دخلت مرحلةً لا يعود فيها النفط هو السطر الأول في روايتها الاقتصادية. هذا الرقم ليس رقماً فقط .. إنه صوت دولةٍ تتحرك، و خطوةُ وطنٍ قرر أن تكون قوته نابعة من داخله قبل الخارج. و إشارةُ طريقٍ تقول إن الرؤية لم تعد فكرةً مُعلّقة، بل تحوّلت إلى قُدرةٍ تشقّ طريقها بثبات نحو المستقبل. من يُدرك معنى أن ترتفع صادراتٌ لا تعتمد على النفط، يُدرك أنّ السعودية اليوم تُعيد ترتيب قواعد اللعبة الاقتصادية .. دولةٌ كانت تُعامل بوصفها عملاقاً نفطياً و أصبحت اليوم عملاقاً إنتاجياً، صناعياً، لوجستياً، و تنافسياً. ما يحدث ليس مجرد تنويع .. إنه تحوّل هوية اقتصادية كاملة. لقد أرادت رؤية 2030 أن تغيّر موقع المملكة في الاقتصاد العالمي، فجعلت الصناعة الوطنية أكثر حضوراً، و المصانع أكثر قدرة، و الإنتاج المحلي أكثر تنافسية. و اليوم .. يأتي هذا الرقم ليقول إن الرؤية وصلت إلى أكثر مراحلها إقناعاً: مرحلة النتائج. ارتفاع الصادرات غير البترولية يعني أن سلاسل الإنتاج تعمل، و أن المصانع تدور، و أن الخدمات اللوجستية ترتقي إلى مستوى يفوق الإقليم و يقترب من العالمية. و يعني أن المملكة لم تعد تنتظر تقلبات أسواق الطاقة لتنهض، بل تنهض بقوتها الذاتية؛ بقوة إنسانها .. و مصانعها .. و قراراتها السيادية التي يقودها ولي عهدٍ يعرف كيف تُكتب نهضةٌ تُشبه الدولة التي يحكمها. إن هذا الرقم ليس مؤشراً اقتصادياً فقط، بل برقية سياسية للعالم: المملكة تبني قوتها بيديها. اقتصادها لا يُختبر ببرميلٍ يصعد أو يهبط، بل يُختبر بما تزرعه من قيمة مضافة في كل قطاع، و بما تُقدّمه من نموذج جديد لدولةٍ تصنع الثروة لا تستهلكها. و في عالمٍ مضطرب، تُعيد المملكة تعريف الاستقرار بأنه مشروع عمل لا مجرد شعار. فالدولة التي ترفع صادراتها غير البترولية بهذا الحجم ليست دولة تنتظر الظروف، بل دولة تخلق ظروفها. و ليست دولةً تبحث عن مكانٍ في الأسواق، بل دولةٌ تفرض مكانها في سلاسل الإمداد الدولية، و في الصناعات التي تنافس بها الدول الكبرى. الاقتصاد السعودي اليوم يتحول من اقتصاد يعتمد على رافعة واحدة، إلى اقتصاد يضع عشرات الروافع التي تعمل بوقت واحد. و هذا هو جوهر القوة: أن يكون لديك أكثر من مصدر للنمو، و أكثر من بابٍ للتصدير، و أكثر من جناحٍ للتحليق. هذا الرقم يقول شيئاً آخر أيضاً: إن المواطن السعودي لم يعد يتابع أخبار الاقتصاد بوصفه خارج المعادلة .. بل بوصفه شريكاً فيها ، هو الذي يعمل و ينتج و يصدّر و يقف خلف كل مصنعٍ و كل شحنةٍ و كل منتج يحمل اسم المملكة إلى العالم. و حين ترتفع الصادرات غير البترولية .. فإن الذي يرتفع ليس حجم التجارة فقط، بل حجم الثقة. ثقة الدولة بمستقبلها، و ثقة المستثمرين في بيئتها، و ثقة العالم بنموذجها الاقتصادي الجديد. إن السعودية اليوم لا تقدّم للعالم رقماً .. بل تقدّم حقيقة: أن المستقبل هنا .. و أن اقتصادها يمشي بخطوات دولةٍ تعرف نفسها جيداً، و تعرف ماذا تريد، و تعرف كيف تصل. 19.4% ليست مجرد نسبة .. إنها علامةُ طريق تقول: إن المملكة دخلت مرحلة النضج الاقتصادي، و بدأت تحصد ثمار رؤيةٍ صيغت لتبقى، لا لتُعلن فقط. مرحلةٌ تُكتب فيها قيمة الدولة بقدر ما تُنتجه، لا بقدر ما تملكه فقط. هذه هي السعودية الجديدة: اقتصادٌ يُعاد تشكيله كل ربع. و صعودٌ لا يعرف التوقف. و دولةٌ تُثبت أن القوة ليست في ما تملكه .. بل في ما تبنيه.