سعيد السريحي: “النصر لا الشهادة”.
هكذا حسم سعيد السريحي موقفه من أكبر فضيحة حدثت في الوسط الأكاديمي برفض جامعة أم القرى منحه شهادة الدكتوراة بعد اكتمال كل متطلباتها وشروطها قبل أكثر من أربعة عقود. قال تلك العبارة في معرض تعليقه على سلسلة الحلقات التي نشرتها صحيفة “مكة” عام 2015 عن قصة حجب الشهادة عنه، وكشفت فيها خبايا وأسرار يندى لها جبين العلم وأمانته وشرفه وحياده، وصدمت الجميع بما فيهم السريحي نفسه، الذي صرح للصحيفة آنذاك قائلاً “منذ أن أعلنت الجامعة رفضها منح الدرجة، ولّيتها ظهري غير آبه بها، غير أني أخفيت في صدري ثقةً مطلقةً بأن الأجيال القادمة سوف تنتصر لي وتحاسب الجامعة على ما فعلت، ولا أنتظر مطلقاً من الجامعة أن تتراجع، ولذلك فإن ما كنت آمله من نصر أراه يتحقق يوماً إثر يوم”. وفعلاً انتصر السريحي، وبقيت الوصمة في تأريخ الجامعة. وحين نذكر قصته مع الدكتوراه فلأنها من أشرس نماذج وتمظهرات الحرب الضروس التي كانت تُشن بلا هوادة على فكر أدبي وثقافي يحاول الخروج من شرنقة النمطية والرتابة التقليدية الى آفاق أرحب، ولكن تم تحويره ونقله من قبل التيار المتشدد المؤدلج، ذو الحظوة والسطوة، الى ساحة الدين والهوية الاسلامية، وتشكلت ما يشبه محاكم تفتيش النوايا، والفرز والتصنيف بناءً على معايير ذلك التيار الطاغي، الذي أباح لنفسه ممارسة أشد صنوف الأذى تجاه من لا يخضع له، أو يختلف معه، أو يلمّح لأهدافه المستترة. رمى سعيد السريحي قصة شهادة الدكتوراة خلف ظهره، ولم يتأثر بندوبها التي ترسبت في نفسه، ومضى يمارس دوره في ساحة الأدب والفكر والثقافة والصحافة بحضور بهي وعميق ومؤثر، اتسعت ساحته في أرجاء الوطن العربي، وأصبح من أهم الأسماء التي لا يكتمل محفل أدبي إلا بوجودها. عرفت الأجيال سعيد السريحي ناقداً وباحثاً في الأدب واللغة، ومشتغلاً بقضايا الثقافة والفكر، وشاعراً بديعاً حين يداهمه شيطان الشعر الفصيح، أو بلهجته الشعبية العذبة. عمل بالصحافة معظم وقته لكنها لم تكن على حساب مكونه الحقيقي الأساسي كأديب ومثقف متميز. عاش صخب المدن لكنه ظل ذلك البدوي الممتلئ بحمولات القرى من تراث وعادات وقيم وصلابة في مواجهة الحياة. منحه الله ميزة فريدة، فعندما يتحدث سعيد السريحي في موضوع أو قضية تشعر بترابط عجيب في حلقات السرد، وحضور أعجب للاستشهادات والاستدلالات المناسبة والمتوافقة مع رؤيته لما يتحدث عنه، تنهال ذاكرته المكتنزة بشكل متألق وهو يتحدث بلغة فخمة تسر السامعين، ومع ذلك لم تداخله الخيلاء ولا لوّثه الاستعلاء، استمر بسيطاً قريباً متصالحاً مع ذاته، ومع كل مفارقات الحياة التي يتأملها بنظرة الحكيم. الآن يرقد سعيد السريحي على سرير المرض بعد أن داهمه بغتةً في الجزء الأهم الذي كان يحرك إبداعه، ربما لم يحتمل دماغه كل هذا العبث الذي يحدث في الدنيا فانفجرت شرايينه، إنه الآن في النقطة الحرجة الفاصلة بين عالمين، لكننا نتوسل الى الله أن يعيده لنا ، ويمن عليه بالشفاء والعافية، وإنه على ذلك لقدير.