عن السريحي.. بل عن الثلاثاء الذي عاد يوماً من الأيام!
هذا نوع من الرثاء، أكتبه نثراً، كان يفضّل نثري على شعري. قالها تلميحاً وتصريحاً، وأتفق معه. قال أشياء كثيرة منذ عرفته، كثيرة جداً، وأتفق معه. أتفق معه حتى فيما أختلف معه. وأرثيه، رغم أنه لم يمت بعد. لم يمت، ولن يموت. السريحي لا يموت؛ أخذ غفوة صغيرة، ربما تطول، وربما تدوم. وقد يصحو، نعم قد يصحو، لنجتمع في أبحر على عادتنا كل ثلاثاء، لنسخر من رثائي هذا، ونفككه بطريقتنا الخاصة، نتشعب في تفاصيل افتراضية، يمارس فيها التأويل -الذي نحب- على طريقته الخاصة، ونختلف.. نختلف.. حتى يحين موعد المغادرة، ويقرر حاسماً: نكمل اختلافنا الثلاثاء المقبل. لم يكن الثلاثاء فقط؛ مؤخرًا كانت معظم الأيام. أعني بـ (مؤخراً) الاثني عشر عاماً الأخيرة، والمدن التي جبناها في كل اتجاه، والطرق التي سككناها بنقاشاتنا الطويلة مستظلين بصحبته، ومهتدين بالجميل الجليل من حكاياه. في آخر ثلاثاء التقينا كان نقاشنا ضارياً مع العصبة حول شؤون جمعية الأدب التي أصبح رئيس مجلس إدارتها، وحول مشروع أرادني أن أستلم دفته، وافقت بشرط، وحددنا أكثر من موعد. أخرجت هاتفي، وسجلت في التقويم موعدين: 1)….، 2)….. ولاحظت أن التقويم مليء بالمواعيد التي اقترفناها سوياً. هناك موعد نهاية الشهر، لمشروع عملنا عليه طويلاً، وحان أن ينطلق، كان رئيس اللجنة الاستشارية. (لماذا أستخدم كان الناسخة اللعينة). هو -لا يزال- رئيس اللجنة الاستشارية، وسيلقي كلمة في حفل تدشين المشروع كما اتفقنا، نحن لم نتفق، بل حددنا ماذا سيقول، وكيف سيقول ما سيقول. الآن -لن أكذب عليكم- أشك أنه سيقول أي شيء. وأشك أنه سيصمت؛ لم يكن الصمت يوماً من مزاياه، هذا ما أوقعه في كثير من المطبات خلال حياته. هو أمامي الآن، صامت مثل كنز. أسأل الطبيب. لعله ولعلي… يجيبني: (وضعه حرج، ادعوا له). سنفعل! ثم ماذا! في كتابي الأخير، كان أولَ الأجزاء جزء عنوانه (حياة السريحي: محطات ومطبات)، ضحك حين رأى العنوان أول مرة. وضحكت أنا وأنا أرى تعليقه على الكتاب (عادل خميس وكتابه عن السريحي) في x، وفي الفيس بك. أي لعنة أن يكون آخر ما كتبه السريحي تعليقاً عن كتاب لعادل خميس عن سعيد السريحي. أي حظ عاثر، لو كان الأمر لي لطلبت منه -حين نلتقي الثلاثاء المقبل- أن يمسح تعليقه من هنا وهناك، ومن كل مكان. لكنّ الثلاثاء لن يأتي، هذا الثلاثاء أعني. الثلاثاء المهم، ثلاثاء السريحي، الذي كان أهم أيام الأسبوع، عاد ليصبح يوماً عادياً -رتيباً- كباقي الأيام. فقد أهميته، مثل وزير أعفي من منصبه، فعاد إنساناً كبقية البشر، وانفض من حوله الأصدقاء. كان الثلاثاء يعتقد أنه مهم، لكنه لم يكن كذلك. في آخر ثلاثاء مهم، اتفقنا على أن يحضر توقيع الكتاب -كتابي عنه- في معرض جدة للكتاب الشهر القادم، كنت أشك أنه سيفعل، الآن أشك أكثر. ولست أدري إن كان مخططنا لكتاب (التناص) لا يزال ممكناً، خططنا له مع صديقنا عبدالله الخطيب؛ تجادلنا، وتجالدنا، وانتهينا إلى أن نكتب كتاباً من ثلاثة فصول. يكتب كل منا فصلاً من فصوله، هكذا اقترح السريحي؛ولطالما اقترح السريحي في ثلاثاتنا الخالدة. يقترح ويخطط وننفذ. بقي مما خططنا له حفنة من مواعيد؛ رحلة خارجية، وجلسة نقدية في منتدى جدة، وزيارة خاصة لشخصية خاصة، اقترحها السريحي، أعجبتنا، ثم تراجع عنها، كان يفترض أن نعيد له صوابه فيعود إليها، أو يعيد لنا صوابنا فلا نعود نحن. مواعيد أخرى هنا وهنا وهناك. ويح الوقت. لم أكن أعلم. كنت ساذجاً وأنا أسجل كل مواعيدي في التقويم على هاتفي، لم أكن أعني شيئاً، كأن أتحدى القدر مثلاً، كنت أحاول أن أكون منظماً فقط. بوسعي أن أمحو كل مواعيدي التي يبدو السريحي طرفاً فيها. الثلاثاء.. الثلاثاء هو المشكلة فقط. لو أن أحداً يمحوه من أيام الأسبوع.. لو أن أحداً يجرؤ.