عندما قال له الشدوي: «آن لك أن تموت يا سعيد.. ابنُك إقبال سيَدْفِنُك.»

مأزق أن تكون ابنَ سعيد السريحي.

أدّعي أن والدي، كما أنه لم يكن مثقّفًا عاديًا من حيث تكريس نفسه لما آمن به من جدوى القراءة والاطلاع، ومن حيث إنه عاش كما يحب أن يعيش: صادقًا نقيًّا، لا فرق بين سريرته وعلنه؛ فإنه كذلك لم يكن أبًا عاديًا وهو يحيّد نفسه عن ممارسة دوراً ديكتاتورياً في تفاصيل قراراتي الحياتية، أو يمارس دورًا سلطويًا حين كنتُ طالبًا بالكاد أتجاوز سنوات الدراسة. ولم يكن كذلك أيضًا عندما اشتعل حماسي تجاه التحصيل العلمي، فاتجهتُ لدراسة الهندسة والإدارة، وأصدرتُ مؤلّفين بعيديْن كل البعد عن مجالات النقد والأدب التي انشغل بها طوال حياته. والدي، وهو ينجح في ممارسة أبُوّةٍ تتّسق مع أفكاره حول حرية التفكير ومكانة الإنسان وحقوق إبداء الرأي والتصرّف والاختلاف، كان — من حيث لا يقصد — يمارس ديكتاتورية النموذج الذي يطغى على تكوين قناعاتي وآرائي تجاه الحياة. سعيد، في وجهة نظري كأكبر أبنائه وجاره الملاصق، والقريب من أصدقاء طفولته ودراسته وعمله، كان إنسانًا أكثر مما أستوعب، وأعمق مما أتخيّل؛ متسامحًا حدّ الاستفزاز، لينًا حدّ الغضب، بشوشًا في وجه الاختلاف؛ شريفًا حين يخاصم، وصادقًا حين يحب. وبقدر تشابهنا الظاهري وانسجام علاقتنا كأبٍ وابنه فيما يخصّ قراراتنا الحياتية، كنّا ضحية تناقض فكرة أن تكون إنسانًا مؤمنًا بحرية الآخرين وتقبّل اختلافهم عنك، ومؤمنًا بحريّتهم، وأن يُحاصرك نموذجُ أبٍ شكَّل قدوةً ترى أنك الأَولى بها، وتتعشّم — كونك أكبر أبنائه — أن تكون روحًا كروحه، وجسدًا لقناعاته حتى وأنا أرى سعادته، ذات مرة، وصديقه الأستاذ علي الشدوي يعلّق على ورقة قدّمتُها ضمن فعاليات حلقة جدة النقدية، حيث قال: “آن لك أن تموت يا سعيد.. ابنُك إقبال سيَدْفِنُك.” ويقصد بذلك إقبال الذي قارب الأدب وانشغل بمسائل الفلسفة واللغة، وتصور — مشكورًا — أنني سأتفوّق على سعيد السريحي في هذا المجال. أقول: حتى وأنا أرى سعادته بهذا الرأي، كنت في اللحظة نفسها أُجزم بأن لا أحد يتخيّل فداحة أن يكون سعيدٌ أباك. فإن كانت شهادة القاصي والداني أن ما جعل سعيد السريحي كذلك هو فصاحته ورُقيّ لغته وصوته الشجيّ وهو ينتقل بين منابر الثقافة والأدب، فمن وجهة نظري: سعيد الإنسان أكثر تميّزًا وأثقل وزنًا وأعمق من أن يكون مجرد مثقف. سعيد كان قاسيًا جدًا وهو يمارس إنسانيةً محبّةً مخمليةً متسامحةً لينة رقيقة.