من اوراق السريحي غير المعروفة

1 - التجريد باعتباره تمردا على التأويل التجريد تمردٌ على التأويل.. التجريد يدير ظهره للمعنى.. التجريد لا يستلهم الكائنات ولا يحاول إعادة خلقها.. التجريد يعود إلى أصل الكائنات يعود إلى اللون قبل أن تتلبسه وردة فتصبح حمراء وقبل أن يصطبغ به الدم فيغدو قانيا التجريد يعود إلى الكتلة قبل أن تتخلق جسدا أو صخرة. إلى الفراغ قابلا أن ينبثق منه الوجود أو يبقى فراغا إلى الأبد. تلك هي العتبة التي ينبغي أن نقف عليها كي نتملّى أعمال الأعمال التجريدية فلا نبحث لها عن تأويل ولا نلتمس لها معنى غير هذا الحوار بين اللون واللون وغير هذا الجدل بين الكُتَل وغير هذا الفراغ مترقبين أن تنبثق من اللون وردة أو يسيل دم، وأن تغدو الكتلة جبلا أو جسدا أو حقلا، ومن بين منعطفات الفراغ احتمال أن يطل علينا ما لا نتوقعه من الكائنات. التجريد في جوهره عودة إلى مادة الخلق الأولى كتلةً ولونا وفراغا.. التجريد تجربة تجرد كل شيء من كل شيء وتوقفك على عتبة الوجود والعدم معا. 2 - الرقابة الذاتية : الكاتب .. قاتلا وقتيلا بين الأديب والرقيب مسافة مرصوفة بالتوتر إن لم تكن معبدة بالعداء المتبادل على نحو يجوز معه للأديب أن يتمثل بقول أحمد شوقي بعد نقله من مجاله الدلالي: بين الرقيب وبيننا واد تباعدنا شؤونه نغتابه ونقول لا بقي الرقيب ولا عيونه وإذا كان شوقي إنما قصد ذلك الرقيب الذي يترصد العشاق والمحبين فإن بين الأديب والكتابة من العشق ما يمنحنا الحق في نقل البيت من مجاله الدلالي إلى ما يجعله أليق بما نحن بصدده هذا المساء. وإذا كانت ندوتنا هذا المساء قد اتخذت من “جزء من النص مفقود” فإن تاريخ محنة الأديب مع الرقيب كفيل أن يعيد إلى ذاكرتنا نصوصا بأكملها ظلت مفقودة لا تكاد تصل إلى القراء فإن وصلت إليهم في بلد حال الرقيب دون وصولها في بلد آخر، وحسبنا أن نتذكر في هذا المضمار رواية مزرعة الحيوان لجورج اورويل التي صدرت عام ١٩٤٥ وتآمر عليها الرقيبان الانجليزي والسوفيتي، فحين رأى فيها الأول إمساسا بعلاقات بريطانيا بالاتحاد السوفيتي حليفه في الحرب العالمية الثانية رأي فيها الآخر نقدا للثورة السوفيتية وللنظام الشيوعي فسحبت نسخها من الأسواق. وتقدم روايتا الخبز الحافي لمحمد شكري وأولاد حارتنا لنجيب محفوظ أنموذجين عربيين فقد ظلت الروايتان ممنوعتين في بلدي الروائيين وبعض البلدان العربية الأخرى بينما اتسع لهما صدر رقيب بعض البلدان العربية فظفرتا بنصيب من القراءة ما كانتا تظفران به لولا فضل الرقيب عليهما. تلك كانت نماذج لنصوص كاملة غيبها الرقيب جملة وتفصيلا. غير أن عمر الرقيب مهما طال أقصر من عمر الإبداع ولذلك ذهب الرقيب وبقيت مزرعة الحيوانات شهادة على ما تفعله الأنظمة الغاشمة بشعوبها وبقي الخبز الحافي رغيفا يتغذى عليه الفقراء وبقي أولاد حارتنا علامة على فعالية الإبداع حين يحاول تخييل الأصول ومقاربة المسكوت عنه فيها، ذهب الرقيب وبقي الابداع وكأنما يصدق عليه قول الجواهري: باقٍ وأعمار الطغاة قصار من سفر مجدك عاطر موار والمجد جبار على عتباته تهوي الرؤوس ويسقط الجبار وإذا كان عمر الابداع مرتبطا بتطلع الفن إلى الخلود ومخاطبته لما هو إنساني ثابت لا يتغير بتغير الأجيال ولا يختلف باختلاف الشعوب، فإن عمر الرقيب مرتبط بظروف عصره ومخاوف أنظمته وراهن الثقافة في بلده وجميعها تتغير وتتبدل وتتلون فما تدوم على حال تكون بها كما تلوّن في أثوابها الغول، وإذا كان قدر الكتاب أن يرث الرقيب فإن حسن حظه أن صدر الرقيب قد يتسع لما ضاق عنه سلفه وقد يورثه حظه العاثر رقيبا أشد ضيقا وتعسفا ممن سبقه، وفي الحالين يبقى الإبداع الحقيقي ثابتا يتطلع إلى الخلود وتبقى قوانين الرقابة متغيرة يترصدها الأفول. والرقيب، ليس من مواليد العصر الراهن ولا من مستجدات الأنظمة الحديثة فهو كائن يضرب بجذوره في القدم فما من نظام ينشأ إلا وتنشأ معه مخاوفه ممن يخالفه وممن يختلف عنه وفي تاريخنا من شواهد الكتب التي أحرقت والأجساد التي صلبت ما يجعلنا نتوهم أننا بتنا أرحم حالا مما كان عليه أسلاف لنا ذهبوا ضحية ما كتبوا أو ذهبت النار بما كتبوه فلا نكاد نجد من إرثهم شيئا. غير أن ما يحمل للأدب والأدباء العزاء أن الرقيب الذي نجح في أن يجعل نصا أو جزءا من النقص مفقودا حرض بذلك الأدباء على انجاز ما يمكن أن نسميه نصا أو جزء من نص مخفي، وتولدت بذلك نصوص عظيمة لها ظاهر يخاتل الرقيب ببراءته وباطن لا يملك الرقيب أدوات النفاذ إليه، نصوص يمكن قراءتها على أكثر من مستوى وتقدم أكثر من احتمال للمعنى، ولا نقصد بذلك ما ينحصر في دائرة ما تم التواطؤ على تسميته بالأدب الرمزي بل كل أدب عظيم يستمد خلوده من قدرته على توليد المعاني واكتشاف الاجيال لطبقات متراكمة ومتراكبة للمعاني لا يكاد معنى ينفد حتى يتولد عنه معنى آخر، على نحو يمكن لنا معه أن نزعم أن النص العظيم نص مخاتل على نحو يجعله نصا عصيا على الرقيب أن يلقي القبض عليه، ولنتذكر أن المعري الذي ضاق ذرعا بالمراقبين على كافة مناحي الحياة في عصره حين هتف قائلا : اخفض الصوت إن نطقت بليل والتفت بالنهار قبل المقال هو المعري الذي زخرت قصائده ورسائله بمعان ودلالات لم يخفض فيها صوتا ولم يلتفت فيها قبل المقال مع أنها كانت كفيلة بزلزلة ثقافة عصره وزعزعت الأركان المؤسسة على تلك الثقافة. ذلك هو الرقيب وتلك هي غاية ما يمكن أن يبلغ أثره، غير أن الرقيب الأكثر خطرا وفتكا والذي لا تقوم معه للأدب قائمة ولا للفكر مكانه إنما هو ذلك الرقيب الداخلي الذي يتخفى تحت أصابع الكاتب حين يكتب ويتسرب في صوته حين يتحدث ويهيمن على فكره حين يفكر، ذلك الرقيب الداخلي أو الذاتي الذي يولد في حضن تربية تقوم على الاستسلام والخوف ويترعرع على يد تطويع ممنهج يعلمه الحذر والمداراة ويبلغ أشده حين يصبح للأديب والمفكر طموحاته وأطماعه التي تجعله يرى أن ليس من الحكمة يجاهر بما يعلم أو يقول ما يعتقد. ذلك الرقيب الداخلي الذي يصادر حرية الكاتب قبل أن يكتب ويئد فكره قبل أن يتبلور والذي يتعارض مع الكتابة التي لا تخضع لغير شروطها ولا تتطلع لغير الحرية أفقا والإنسانية هدفا والجمال وسيلة للإبداع. النجاح الحقيقي للرقيب ليس في مقدرته على أن يخفي جزء من النص بل في مقدرته على أن يتلبس المبدع نفسه فيخفيه وعندها يتحول المبدع إلى قاتل وقتيل في وقت واحد. 3 - ترنيمة للصباح صباحْ الخيرْ صباحْ يشبهْ كثيرْ وجهِكْ ‎.. بسيطْ جداً ‎.. عميقْ جداً ‎.. ورغم إنّهْ بري جداً ‎.. يحيّرني كثيرْ جدا ‎.. كأنّهْ النور ‎ْكثيرْ واضح ‎ويخفي أعمقْ أسراره ‎تفيض الجنةْ من سحره ‎وما يعرفْ احدْ ناره