أنس الدريني يستخرج ما «بين الأقواس» ويكشف أسرارا جديدة من حياة الناقد الكبير شفاه الله..

سعيد السريحي:قلب الشـجي لا تخلّونــه!

لطالما كان الكاتب والناقد الدكتور سعيد السريحي أحد العلامات الفارقة في المشهد الثقافي السعودي. فعلى مدى عقود، قدّم إسهامات راسخة في الأكاديميا والنقد والشعر والكتابة والعمل الصحفي، إضافة إلى حضوره في المجال الإداري الثقافي، كان آخرها انتخابه مؤخرًا رئيسًا لمجلس إدارة جمعية الأدب المهنية. وفي هذا الملف، الذي نخصّصه للدكتور سعيد السريحي تقديرًا لمسيرته وإسهامه الحيوي في الثقافة السعودية، وتحية له وهو يمرّ بأزمة صحية نسأل الله تعالى أن يلطف به فيها وأن يمنّ عليه بالشفاء والعافية، نقدّم شهادات ورسائل من كتّاب وتلاميذ ورفاق درب وأبناء. كما نقدّم هذا الحوار المطوّل الذي يكشف فيه السريحي للمرة الأولى جوانب غير معروفة من سيرته وتجربته الثقافية. وقد استطاع محاوره، الإعلامي، المهندس أنس الدريني، أحد أبناء الرويس، بحرفيّته وقراءته لمسار السريحي الثقافي والانساني، أن يستخرج من الناقد الكبير ما لم يستخرجه غيره من شهادات واعترافات تتراوح ما بين التجربة الشخصية والسياق الثقافي الأوسع. الحوار ثري بالتفاصيل التي تكشف عن حياة السريحي في (حي “الرويس” بجدة) وتكشف ملامح البيئة الأولى التي صاغت وعيه. وفيه يعيد للأذهان حكايتين نادرتين عن امرأتين من أهالي الرويس، ويحكي قصة عايد الرفاعي (مكتبته الأولى) وعلاقته بأستاذه ومكتشفه المذيع الراحل عبيدالله أبو زاهرة، كما يستعيد كلمته التي ألقاها أمام أمير منطقة مكة آنذاك الأمير مشعل بن عبدالعزيز بمناسبة مبايعة الملك فيصل ملكا للمملكة . ويفاجئ السريحي القارئ بإزاحة الستار عن جانبٍ غير معروف في مسيرته: تجربته الإذاعية المبكرة، وتدريبه على يد المخرج الشهير سعيد الهندي رحمه الله. كما يستعيد اللحظة المهيبة التي واجه (والده) فيها الموت بثبات لا يرفّ له جفن. حكاية الرويس الحديث عن حيّ الرويس هو حديث عن مكانٍ توافدت القبائل إليه من ينبع ومن ثول ومن رابغ وغيرها، لكن ظلّت إشكاليّة الهوية تؤرّق “سعيد الفتى” في ذلك الزمان. كنتَ دائمًا تقول: “نحن عشنا بين بداوةٍ تموت… وحضارةٍ لم تولد بعد.” وكأنك تشير إلى أن الرويس كان على الهامش؟ -الرويس كان على هامشين: هامش المدينة من حيث الموقع، وهامش المدينة من حيث الثقافة. وكان كذلك على هامش البادية من حيث الموقع ومن حيث الثقافة أيضًا. كأنما هو سقط بين كرسيين: لم يعد ساكنوه هم كما كانوا بدوًا، ولم يصبح ساكنوه كما كان ينبغي لهم — وقد اقتربوا من المدينة — أن يصبحوا حضرًا. لم يكونوا بدوًا، فالبدو يعتبرونهم قد “تَحضّروا”، ولم يكونوا حضرًا، فالحضر لا يزالون ينظرون إليهم على أنهم بدو. كنّا في هذه المرحلة المتوسّطة بين هويتين. كانت تتنازعنا هويتان: هوية البدو الذي يكمن في دواخلنا، الهوية التي ننتمي اليها بحكم قدوم آبائنا من البادية، وهوية المدينة بحكم أننا بدأنا ننخرط إلى نموذج الحياة المدنية وإن كان على استحياء. نرتاد المدارس — وهي نوع من تطويع البدويّة للحياة المدنية — ونرى السيارات، ونعرف كيف نجوب الشوارع، ونركب الدراجات. وهذه من عوالم الحياة المدنية التي دخلناها… ولكننا دخلناها ولا زلنا نحمل في داخلنا ذلك “العِرق” البدوي. الحديث عن الرويس — المكان — حديث عن تضاريس تشكّلت من تأثير البحر، وبالتالي لدينا الرويس الفوقاني، والرويس الآخر الجنوبي — الذي يُعتقد أنه أصلًا ليس بلا مسمّى —. نريد أن تصف لنا جغرافيا، “الرُويس”. - نبدأ من الاسم: كلمة “الرُويس” أيضًا تنتابها ثنائية البر والبحر؛ تمامًا كأهل الرويس حينما تنتابهم ثنائية البداوة والحضارة.و”الرُويس” كمسمّى… هو رأس من البحر دخل إلى البر. إذن هناك برّ وبحر منح — أو تواطأ على منح — المكان تسميته. وهو رويس لأن“ثمّة رأس كبير” على بعد أمتار من الرويس. الرويس هو هذا الرأس الذي لا يزال موجودًا — بقايا منه — بعد الدفن، يقع قرب مبنى أمانة جدة الآن. هذا الرأس الصغير يقابله شمالًا رأس “القحاز” — الموجود أمام قصر الحمراء. إذن: هو “رُويس” حينما ارتحل بعض سكّان المناطق والقرى الساحلية شمال جدة — وأعني بهم أهل ذهبان وثول على التحديد — سكنوا هذا المكان؛ فسكنوا بقرب الرويس الصغير هذا.ولكن الهجرات ظلّت مستمرّة. كما هاجر أولئك الذين كانوا ينتمون إلى قرى حاضرة البحر، فقد هاجر آخرون ينتمون إلى الأودية الزراعية؛ وعلى نحو التحديد وادي ينبع النخل. حينما جاء أولئك الذين لا ينتمون إلى البحر لم يسكنوا بجوار البحر؛ نزلوا على منطقة شرق الرويس — نزلوا فيها — فأصبح اسمها “النَّزْلة”. وكانت “النزلة” تُطلَق عند أهل ينبع النخل على المكان الذي ينزل فيه الناس. وسُمّيت مثلها بنفس الطريقة حينما نزلوا مكانًا آخر شرق جدة؛ سُمّي المكان “النَّزْلة”، وميّزوا بين النزلة اليمانية والنزلة الشرقية. المسمى ينبعاوي بحت. نشأ في هذه المنطقة مجمّعان سكنيان: أحدها الرويس، والآخر “النزلة”.ثم طغى اسم الرويس على المكانين، وأصبح يُسمّى: الرويس التحتاني (ويقصد به الرويس)، والرويس الفوقاني (ويقصد به النزلة). فأصبح كلاهما “الرُويس”.أصبح رويسين. ولذلك تأتي “الكسرة” القديمة: (مَرْكَب عِرض لي وأنا شفته بين “الرُويسَين” ( متقرّب ) (والحاية أزيب مناكفته بالحيل بالجوش متقلّب ) ثم نشأت بين هذين الرويسين أحياء أخرى — أو حارات أخرى — حارة الطائف. وكانت في مرتفعٍ من الأرض يفصل بين النزلة والرويس.ونشأ في منطقة منخفضة من نفس المنطقة حيٌّ يسمّى — لانخفاضه — “الحفِيرة”، وسكنه أيضًا آخرون: شاطروا أهل الرويس في مجمله. ثم تكاثر أهل الرويس وأصبحت هناك أحياء أو حارات أخرى: حارة الشُّرُوق، حارة الينبعاوية، وحارة الصماعنة، وما إلى ذلك. هذا هو الرويس الذي وردته بحاراته الأربعة المميّزة… البحّارة وكان المكان الذي انتقل منه أهل الرويس التحتاني إلى قريب منه. و “النزلة”، و”الطائف”، و”الحفيرة”، وما جاورها بعد ذلك من تركيبات سكانية مقبلة. الأراضي المشاعة كان النمط العمراني السائد آنذاك عشاش وصنادق... - كان كلٌّ يُبنى من سعته… أو لنقل: كان يُبنى من ضِيق ذات اليد. كان أغنى أهل الرويس من يبني بيته من الحجر. وكان أكثر أهل الرويس يبنون بيوتهم من اللَّبِن. وقد كان بيتنا من اللَّبِن. وكان هناك في الرويس من لا يمتلك إلّا أن يبني بيتًا من الخشب، ويُسمّى “الصَّنْدَقَة”، أو يبني بيتًا من القَش ويُسمّى “البَكَّار”. وهذا الاسم الغريب — البكّار — يمكن أن تُسَميه العشة، لكن لدى أهل الرويس كان معروفًا بهذا الاسم. الطريف انك حينما تسمع قديمًا أن فلانًا “اشترى بيت”؛ هو لا يشتري الأرض. الأرض كانت مشاعًا لمن يريد أن يقتطع جزءًا منها.حينما يشتري بيتًا… فمعناه أنه سيفكّك الخشب — الصندقة — وينقله جنب جماعة، او يفك الأحجار عن بيت الحجر ويبنيها عند جماعته لأن من ينزل الرويس عادةً يبحث عمن سبقوه من جماعته؛ فيشتري بيتًا — بمعنى يشتري خشبًا أو حجرًا أو قشا — لكي يبني بالقرب من جماعته. كانت الأراضي ملكا مشاعًا. سألتُ والدي — رحمه الله — بعد سنين طويلة حينما أصبحت للأرض قيمة. قلت: “يابوي ما دام الأرض كانت بلاش… أخذت لنا الأرض كلها كانت 15 في 15 ليش ما وسعت؟” قال: “يا ابني ويش يبني لي الحوش حقها”. كانت التكلفة أن تبني جدارا وليس أن تمتلك أرضا. لذلك كانت الـ15 في 15 بالكاد هي اللي يقدر أبي أن يبني جدارها… وبالتالي تشكّل منزلا له. لو لم يحكو لماتوا من هنا… أعتقد أنه كان فيه علاقة متجذّرة مع البحر.علاقة لم تخلُ من الفقد والـغرَق. ولعلي هنا أستحضر الحكايات الشعبية التي ارتبطت بالبحّارة. لعل منها ما رويته أنت في رواية الرويس… قصة “أم عوض”، التي جنت بعد فقدان ابنها... - تعرف أعتقد أن أهل الرويس ، وربما الرويس نموذج لكل الأحياء، لكل القرى، في أدنى الأرض وأقصاها. هذه التكوينات السكانية البسيطة…أعتقد أنهم لو لم يحكوا لماتوا. كانوا يصنعون من “القَص” حياة موازية؛ كانوا يستعيدون آباءهم وأمهاتهم الذين ماتوا في القَص. كان “القَص” أوتادًا يربطون بها حياتهم على الأرض. لذلك كان أهل الرويس حكائين بطبعهم…وكانت قصصهم من تجاربهم؛ وأغلب تلك التجارب كانت قادمة من معاناتهم مع البحر. أو كانت استعادةً لذكريات أجدادهم في البر. كانت مزيجًا من: البر،والبحر. المزارعون، وما الذي بقي من ذكريات الأودية، البدو وما الذي بقي من تلك الفيافي التي كانوا يرعون فيها جمالهم، البحر، وما الذي قاسوه فيه من أهوال، يتذكرون في الحكايات أولئك الذين ماتوا، أولئك الذين غابوا… ولم يعرف أحد كيف غابوا، يتذكرون — وبالتفصيل — ماذا حدث، وكيف تعاملوا مع ما حدث، ماذا قالوا، ومن الذي مات، ومن بقي يحمل ذاكرة الموت. لذلك الرويس حكاية. حكاية كبيرة. ذات يوم أردتُ أن أدوّنها، فلم أستطع إلّا أن أقدّم هذا الكتاب، الذي هو أقلّ من أن يكون وفاءً لهذا المكان. قصة جدتي عابدة ما الذي يحضرُك من تلك القصص… الذاكرة… - دعني أشير إلى قصة “عابدة”. وأنا أعرفها — جدتي عابدة أعرفها جيدًا. تتحدث كيف أنهم حينما رَحَلوا في البحر أثناء حصار جدة… وأمضوا أيّامًا في البحر… مات أحد أطفالها.وكما هو معتاد: حينما يموت كبير أو صغير أثناء الرحلة في البحر… فليس لهم إلا أن يربطوه بحجر ثم يرموه في البحر. عز عليها أن تأكل طفلها الحيتان. رفضت أن يُرمى في البحر. حملته ثلاثة أيام وهو ميّت… حتى رَسَوا إلى جانب جزيرة فدفن فيها. أتذكر جدتي عابدة وهي تقول: والله يا وليدي… مدري مدري وش هي الجزيرة… أقول لها: أبو سعد ؟ تقول: لا لا بعيدة أقول لها: الواسطة”؟ وتقول: لا لا… بعيدة…وما فيها أحد… خالية…كأنما ذلك الطفل هو الساكن الوحيد في تلك الجزيرة. هذه واحدة ممّا ترويه “عابدة”، وهي نموذج لما يرويه أهل الرويس. دعني أذكر “حامدة” وهي امرأة عجوز. كانت تجلس مُنكبّة على وجهها… في نصف المسافة بين الجلوس والسجود. لا تستطيع أن ترفع ظهرها… ولا تستطيع أن تنتصب في جلستها. وكانوا يقولون لها : إنه حينما جاء خبر وفاة ولدها غرقا في البحر، سجدت لتربط على قلبها بالصبر. وحينما رفعت من السجود… لم تستطع أن تبلغ الاستقامة في الجلوس. بقيت في هذه المسافة بين السجود والقعود. حامدة بجلستها كانت تحمل جنازة ولدها بقية عمرها. تجاور البؤس والثراء بعد ذلك تمردت جدة على سورها وتداخلت مع حي الرويس وهنا ملامح حياة جديدة، مختلفة. وانتظم الطفل سعيد السريحي على طاولات الدراسة…صف لنا تلك المرحلة.. - حينما ضاقت جدة بأهلها خرجوا إلى البغدادية.البغدادية في الأصل كانت عبارة عن المنتزه الذي يخرج إليه أهل جدة مساء الخميس ومساء الجمعة، ثم سكنوا البغدادية. وحين امتلأت البغدادية بمن رحلوا إليها، رحلوا أبعد منها فسكنوا الرويس؛ وسكنت الرويس أسر كريمة من أهل جدة. دعني أتذكر منهم: بيت البحيري، بيت خميّس، بيت بنقش، بيت فدعق، بيت بوقري، بيت المناع… سكنوا على مبعدة من بيوتنا. لكن كنا نلمح الفارق بين بيوتنا الموغلة في البؤس، وبيوتهم التي كنا نراها موغلة في الثراء. وحينما سكنّا الرويس شعرنا أن ثمة من هو غني ومن هو فقير، من يملك ومن لا يملك. كانوا بالنسبة لنا اشعارا لنا بما نحن فيه من بؤس. ولذلك لم تكن العلاقة علاقة ود بيننا وبينهم؛ كنا غرباء عن بعضنا. سكنوا وظلوا على هامش الرويس، أو لعل الرويس ظل هامشًا بالنسبة لهم. لم تكن هناك الصداقات المشتركة — لولا أنّ المدرسة جمعت بيننا وبدأت تَمحو هذه الفروق، وإن كنا لا نزال نعرف الفارق بين سمارِنا وبياضِهُم، ولا يزال الفارق بين لهجتنا الأقرب إلى البادية ولهجتهم المتحضرة. ولا نزال نستغرب كيف ينطقون الذال زاء، وكيف ينطقون الثاء سين أو تاء. كنا نميزهم بلهجاتهم، ونميزهم كذلك بنقاء ثيابهم البيضاء؛ والتي لم نكن نعرف كيف يتمكن أمهاتهم من جعلها بهذا اللون! أما ثيابنا، فأعتقد أن أمهاتنا كنّ يعجزن عن منحها مثل هذا النقاء. إذن، حتى المدرسة دمجت بيننا، لكنها تركت مسافة للاختلاف. لم نتمكن من تجاوز هذا الاختلاف إلا في مراحل متقدمة، ولم يصبح لي أصدقاء من أهل البلد — أو الحَضَر — إلا في المرحلة الثانوية. قبل ذلك لم يكن لي أصدقاء — وأنا واحد من أهل الرويس — إلا أبناء الرويس فقط. وما هي حكاية عايد الرفاعي.. - عايد الرفاعي لم يكن يسكن الرويس؛ كان يسكن “عنيكش” وهي المنطقة التي تُسمى الآن مشرفة. ولم تكن البيوت فيها تتجاوز أصابع اليدين: متفرّقة. وكنت إذا ذهبت إلى عايد، نجلس تحت جدار بيتهم الشرقي، ثم لا يفصل بيننا وبين الجبال فاصل… أرض ممتدة إلى الأفق. كان يسكن هناك، ولم تكن فيها مدرسة، لذلك كنا نتزامل في مدرسة الرويس الابتدائية. هو يمضي لها من بيتهم ما يقارب الثلاثة كيلومترات، وأنا من بيتنا في حدود كيلوين. عايد كان سرا غامضًا بالنسبة لي؛ أنا لا أعرف حتى اليوم من أين كان يأتي بالكتب. كان والده كوالدي: أقرب إلى الأمية. وكانت أمه كوالدتي: أمّية تمامًا. لم يكن وريث مكتبة في البيت، ولم أكن كذلك. ومع ذلك كان عايد يأتي مُخبئا في كتب المدرسة بكتبٍ لطه حسين، لنجيب محفوظ، ولطفي المنفلوطي، والعقاد. ثم يُريني هذه الكتب… ثم أفضُل عليّ بإعارتها. كنا في الصف الخامس والصف السادس. كان عايد هو مكتبتي. ما زلت أحتفظ في مكتبتي بكتابٍ لطه حسين من إهداء عايد وهو كتاب حديث الأربعاء. ولا أعرف إلى الآن من أين كان يأتي عيد بهذه الكتب. وأنا لا أتذكر أنني سألته، وفات علي أن أسأله … عايد كان بالنسبة لي هو النافذة لأن أقرأ، لأن أشعر بأن ثمة ما هو مختلف عن كتب المدرسة، وأن العالم أوسع من هذه المقررات. رحمه الله. أعتقد أنه أثّر كثيرًا بقراءاته، بمحاوراته، وبما كان يعيرني إياه من الكتب. وأثر فيّ أيضًا بموته المبكر. أبوزاهرة الأستاذ والمكتشف *أنس:من عايد إلى الأستاذ عبيدالله أبوزاهرة الذي اكتشف سعيد السريحي. -السريحي: دعني وفاء لعايد أن أذكر اسمه كاملا: عايد عيد سالم الرفاعي، رحمه الله. أما عن الأستاذ عبيدالله رحمه الله فكان آخر لقاء بصحبتك أخي أنس وبتنسيق منك، جزاك الله خيرًا. الأستاذ عبيدالله درسني في الصف الثالث ابتدائي. درسني لغة عربية: المطالعة، المحفوظات، والإنشاء… كما كنا نسميها. ولا أعرف لماذا لفتني صوته- ذاك الصوت المليء. ربما لأن أبي رحمه الله كان صوته مليئًا. قال لي أحد الأصدقاء قبل فترة: كنا اذا مرينا من عند مركاز عايد كرامة، وكان المركز الذي يجلس أبي معهم— قال كنا نستغرب: هذا صوته زي صوت الإذاعة. كان صوت والدي مليئا وكان صوت عبدالله زاهر مليئًا؛ لم يكن فيه هذه الحشرجة. لم يكن يرفع صوته فيصبح صغيرًا… كان دائمًا يتحدث بطبقة صوتية عميقة. لم أكن أعرف أنه يعمل في الإذاعة. وربما لم يكن آنذاك يعمل فيها. لكني أُقسم أنّني كنت مفتونًا بصوته وبلغته. ربما عبيدالله أبوزاهرة رحمه الله هو الذي علّمني كيف يمكن أن تكون اللغة جمالًا يُضاف إلى الإنسان. كيف يتجمّل الإنسان بطريقته في الكلام، وكيف تصبح اللغة ثروة تعلي من قدر الانسان.ذلك كان افتتاني به. . هذا الصوت وهذه اللغة. وأنا لا أعرف كيف تأتي لطفل في الثالثة ابتدائي أن يفتن بهذا الشيء؟ حين أصبحت في الصف الخامس، أقام اهل الرويس حفلًا بمناسبة مبايعة الملك فيصل على نمط ما أقامته أحياء جدة كافة. وكان يحضر هذا الحفل الأمير مشعل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكة، نيابةً عن الملك فيصل المتوّج على العرش. وكبار أهل الرويس يشاركون بالحضور وبما يُقدَّم في الحفل. وكانت مدرسة الرويس الابتدائية مشاركة بكشّافتها كذلك. ولكن لم يكن بدٌّ من أن يشارك طلاب مدرسة الرويس بكلمة. أتذكر كنتُ واقفًا مع الكشافة الذين سيحضرون الحفل. فجاء الأستاذ عبيدالله وزهمني: سعيد، وأخذني. كنت مستغربًا: لماذا لا أكون مع الكشافة؟ وكان قد أدرك هذا الإحساس لديّ ، أن أحرم من أن أكون مع الكشافة الذين يشاركون في الحفل. قال لي: «لا… لك شغلة ثانية.» الشغلة الثانية: أن ألقي كلمة طلاب مدرسة الرويس. وهذا ما تم. كانت تلك الفرصة الأولى لي أن ألقي كلمة أمام جمع من الناس، وبحضور أمير المنطقة، سنة 1385 هجرية، كلمة طلاب مدرسة الرويس في الحفل الذي أقامه أهل الرويس بمناسبة مبايعة الملك فيصل. ولم تتوقف صلتي بالأستاذ عبيدالله بانتهاء المرحلة الابتدائية. كان أحد أبناء الرويس، ويعمل في الصحافة. وحين بدأت أحاول الكتابة—وأنا في الصف الثاني الثانوي—كنت أحمل بعض كتاباتي له، وكان يتولى إيصالها، ربما لصحيفة البلاد. وأعتقد أنها البلاد، وقد نُشِر لي بعض الكتابات بواسطته. تجربتي الإذاعية طريفة وماذا عن تجربتك الاذاعية. ربما كثيرون لا يعرفون عنها شيئا.. - هي تجربة طريفة. جاءني— بعد تخرجي— صديقي وأخي صالح بوقري، يخبرني أنه قرأ اعلانا عن حاجة الإذاعة إلى مُذيعين. فاتفقنا أن نذهب، وذهبنا. أجرَوا تجربة أولى… نجحتُ فيها، ولم ينجح صالح—ربما لأني بحكم تخصصي لغة عربية، وصالح خريج قسم الجغرافيا. نجحتُ… غير أنهم قالوا إن لديهم ملاحظتين عليّ: أنني أستخدم أعلى الحنجرة.والأخرى: اللدغة في حرف الراء. وأن عليَّ أن أصلح هذين الخللين لكي أصبح مُذيعًا. ثم أوكلوا مهمة تدريبي إلى رجل عظيم، هو المخرج سعيد الهندي—وكان من كبار المخرجين اللبنانيين، عجوزًا متقدمًا في السن. وكانت أول ملاحظاته: «استخدامك أعلى الحنجرة طبيعي، لأنك مدرس والمدرس في المدرسة يرفع صوته لكي يسمعه الطلاب في آخر الصف، ولذلك اعتدتَ أن تستخدم أعلى الحنجرة. الآن لا تحتاج أن ( ترفع ) صوتك… الميكروفون أمامك. تحدث بطبقة صوت منخفضة مستخدمًا أسفل الحنجرة. ولكي تعرف أنك تستخدم أسفل الحنجرة: ضع يدك أعلى بطنك. فإذا شعرت بذَبذبة الصوت في أصابعك، فأنت تستخدم أسفل الحنجرة.» وطلب مني أن أقرأ يوميًا صفحة كاملة من الجريدة لتقوية الحبال الصوتية، وأن أحاول أن أنطق حرف الراء بطريقة أو أخرى حتى تستقيم. بقيت مع الأستاذ سعيد الهندي رحمه الله شهرًا، أثناء انتقال عملي من التعليم، وكانت الإجراءات قد بدأت لانتقالي الى الجامعة في مكة، ولعلي بحاجة إلى أن أعترف أنني لم أكن أريد أن أكون مُذيعًا؛ لم يكن لدي الوقت الذي يمكن أن أقضيه في الإذاعة. ولكنني كنت بحاجة إلى هذا الدرس: في تصحيح لغتي نطقا، في تصحيح مخارج الحروف، في استخدام أسفل الحنجرة، وأن أتحدث كما يقول سعيد الهندي: اللي يستخدم أعلى حنجرته بعد شوي يصير مزعج.كنت بحاجة الى أن أعرف ألا أكون مزعجا. ولذلك حين فرغت منه اعتذرت عن العمل. ولكنني عدتُ إلى الإذاعة بعد سنوات حين اتصل بي أستاذي في المرحلة الثانوية- وكان قد أصبح أستاذًا في الجامعة—الأستاذ محمد سعيد تمار، وكان مدرسًا للتاريخ. وطلبوا منه أن يرشّح أحدًا ليكتب الدراما التاريخية في الإذاعة… فاتصل بي وخبرني كيف تنكتب فقلت اذا كذا تبقى سهلة. . أكملت تلك الدورة، ثم طلبت مني الاذاعة أن تستمر الدراما للدورة الثانية… واستمرت.وطلبوا مني الاستمرار فقلت لهم أنني لن استطيع الكتابة عن التاريخ. أنا رجل لغة عربية. فبدأت أكتب برنامج «رواد من بلادي»، واستمر دورتين. ثم ضاقت … لم يعد ثمة رُواد؛ استهلكتهم في البرنامج الاسبوعي. فكتبتُ برنامجًا جديدًا… «أدباء من بلادي»… واستمر.وأتذكر آخر عهدي بالإذاعة: في آخر شهر شعبان، طلبوا مني أن أكتب دراما يومية لرمضان…والوقت كان ضيقا . كانوا يريدونها خلا ليومين أو ثلاثة. شخصية تُكتب عنها ثلاثون حلقة. كنت أنهيتُ مرحلة الماجستير. وماكان عندي شخصية ملم بها سوى أبو تمام. وكتبتُ دراما إذاعية يومية عن ابي تمام، وأُذيعت في رمضان عام 1405 هـ.أثناءها التحقت بصحيفة عكاظ لكن لم يكن بوسعي التوفيق بين الجامعة وعكاظ والإذاعة، فاعتذرت من الاذاعة وكان ذلك آخر العهد. جبروت الوالد أمام الموت من المنعطفات الهامة أيضًا فقد والدك. وأذكر حقيقة القصة التي رويتَها لي: حين أخبرته بأنه مصاب بالسرطان، وأنه قال لك: ياسعيد أنا لا أخاف من الموت... - أتذكّر أننا عرفنا أنه يعاني من سرطان الحنجرة، وكان من الصعب علينا أن نبلّغه بذلك. طلبت من الدكتور سعد الجهني، مساعد الجرّاح في مستشفى الحرس الوطني، سعد الجهني، أن يترك لي مهمّة إبلاغه. وكان قد تنوم في المستشفى لتهيئته للعملية، وهي عملية استئصال الحنجرة. وأكّد الدكتور سعد علي أنه لن يقوم بإجراء العملية الا بعد أن يُبلّغ المريض بالأمر. كنتُ في حرج شديد، وكنتُ أرافقه، وأخرج معه أحيانًا إلى حديقة المستشفى. وحدث أن خرجتُ يومًا، وحين عدتُ وجدتُ أنهم أخذوه إلى غرفة الدكتور سعد الذي ( أخبره ) بالأمر. كنت أدفع كرسيه المتحرك، سألني: سعيد أنا أيش عندي، فقلت له: والله يابوي هذي الالتهابات اللي في الحنجرة. قال: التهابات. لا أنا عندي سرطان. الدكتور قال لي ذلك. لماذا لم تخبرني؟ قلت والله يابوي ماعرفت ايش أقول لك. قال: تحسبني خايف من الموت؟ قلت : يابوي مافيه ما أحد مايخاف من الموت، قال لي: تعال. وقفت العربة ومشيت أمامه وكان لايرى الا بصعوبة.. قال لي شف ياسعيد: “أنا عمري ما بت آمن من الموت… أجي أخاف منه الآن؟ الموت طول عمره معي. لمن يجي يجي. سرطان وغير سرطان”. كان شجاعًا في تلقي الخبر. وأذكر أن الدكتور سعد حدّثني مندهشا عمّا جرى معه في غرفة العمليات قبل التخدير؛ ويقول لي ايش الجبروت عند هذا الشايب. قلت له: خير. قال لي نحن نجري عملية نسبة نجاحها ضعيفة ونسبة الوفاة كبيرة, وهو يقول لي: «يا دكتور… لاشلت الحنجرة ركّب لي ماسورة مقاس 2 بوصة… علشان أقدر أبلع .مع هذا المرض من زمان وأنا ماني قادر أبلع… ركب الاثنين بوصة، الله يوفقك». الهوية المركبة أعود دائمًا إلى سؤال الهوية عندما أتناقش معك؛ بين البداوة والحضارة. فعلى الرغم من أنّ الدكتور سعيد كان صوتًا ورمزًا للحداثة، فإن بعضهم يرى أنه لم يخلع ثوب البداوة تمامًا. انعكس ذلك مثلًا في مناصرته للأدب الشعبي. هل في المسألة تناقض؟ - دعني أعود إلى تلك «الهوية المركّبة» لنا كأبناء الرويس؛ ودعني أجذر موقفي من خلال تلك المسألة. كما قلت لك كنا في الرويس بين هويتين ، أو لأقل كنا الهويتين معا. اعتدنا على أن ننزلق بين الهويات. لم يكن مفهوم الهوية حجرًا صلبًا يقيدنا. كان من السهل علينا أن نكون بدواً حين نستضيف أهلنا القادمين من البادية، ولم يكن صعبًا علينا كذلك أن نكون حَضَرًا، أو أن نتحضّر بقدر ما نستطيع، حين نكون مع أصدقائنا القادمين من المدينة. كان من السهل علينا أن ننزلق بين هويتين. قبل أن أؤمن بالحداثة، أنا أؤمن بحرية الإنسان، بحرية اللغة. كيف لي أن يجمع بين هذا ايماني ومصادرته للفنون المختلفة بما فيها الفن الشعبي؟ قلتُ لأحد الأصدقاء مرة: كن حرًا، حتى لو كتبتَ بالسواحلية! الشرط الوحيد: أن تكتب شيئًا جميلًا. أكتب شيئا راقيا. اللهجة الشعبية مستوى من مستويات اللغة، ليست مستوى أعلى أو أدنى، بل مستوى مختلف. وبإمكانك أن تكون شاعرًا عظيمًا إذا عرفت كيف تكتشف القيم الجمالية في اللغة التي تستخدمها. أنا أعتقد بأن “بديوي الوقداني” شاعر عظيم لا يقل شعره جمالًا عن فصاحة حافظ أو شوقي أو البارودي أو الغزاوي – على سبيل المثال –. لم تقعده لهجته من أن يكون شاعرًا كبيرًا، ولم ترتقي الفصحى أيضا بالشعراء البائسين. ولكن لك موقف من وصول الشعبي الى المؤسسة. - تلك مسألة أخرى. حين تتحول أي لغة إلى “لغة مؤسسة” – أي تصبح جزءًا من خطاب مُصادِر لغيره – عندئذٍ أنا لا أقف ضد الشيء في ذاته، بل ضد تحوّل الشيء إلى سلطة. بمعنى: لا أريد للعامية أن تصبح، بما يُدعم لها من عمل مؤسساتي، قوة ضاغطة. وكذلك لا أريد للفصحى أن تتحول إلى سلطة تفرض نفسها على الناس باسم الفصاحة. أعتقد أنني سأقف ضد الفصحى حين تصبح الزامًا للكتابة، وسأقف ضد العامية حين تصبح الزامًا للكتابة. الوقوف إذن هو ضد مأسسة مستوى من مستويات اللغة على حساب المستويات الأخرى.وكذلك حين أقف ضد بعض التجارب، فإنما أقف ضدها لهشاشتها. أقول دائمًا: العامية عامية الفِكر، وليست عامية اللغة. لذلك لا تنقذ الفصحى من كان عاميا أو سوقيا في تفكيره. التاريخ هو الذي انتصر مسيرة هائلة من الحراك والسجال تخللها سحب درجة الدكتوراة منك ، اليوم من الذي انتصر بعد كل هذا السجال مع المتشددين ؟ - لا يمكن لي أن أعتبر ما حدث انتصارًا فرديًا لي، وإنما هو انتصار لما راهنت وراهن أصدقاء وزملاء كثر عليه. أن الانتصار لن يكون للانغلاق مقابل الانفتاح، ولن يكون لزيف الوعي مقابل الوعي الحقيقي، ولن يكون للقبح مقابل الجمال. كنا نراهن على وطنٍ منفتح، وها نحن نعيش هذه الحقبة من وطننا. كنا نراهن على حرية التواصل مع العالم، وها نحن نمارس هذا التواصل اليوم. كنا نراهن على حقوق الناس، رجالًا ونساءً، وها نحن نشهد هذا العصر. كنا نراهن على أن المستقبل سيكون للمستقبل. وكانوا يراهنون على أن يكون المستقبل صورة منعكسة من الماضي. لم ننتصر نحن، وإنما انتصر التاريخ؛ والتاريخ لا يمكن أن يمضي إلى الخلف، هو يمضي إلى الأمام دائمًا، مهما حاول بعضهم أن يضع العصا بين قدميه. اتهموني بالشعبوية في كتاب “حجاب العادة” ما الذي أردت أن تقوله؟ - بالمناسبة – هذا الكتاب اتُّهمتُ بسبب أكثر من مقال فيها بالشعبوية ، أردتُ أن أُخرج ظاهرة الكرم من كونها كما أُرادوا لها: طبيعةً وخلق. وكأنما العربي خُلق كريمًا. بينما أردتُ أن أضعها في إطار التجربة. بمعنى ان نمط الحياة في الجزيرة العربية آنذاك كان يجعل من الكرم مخرجًا من المأزق. نحن لسنا في مجتمع وفرة. ذلك الراحل عابرُ البريّة حين يصل إلى قرية لا يجد الأسواق التي يشتري منها ما يحتاجه، ولا كانت هناك أماكن يتزوّد منها بسهولة، ولا كان بوسعه أن يحمل قوت رحلته على ظهره أيامًا وليالي. لذلك لا بدّ من إكرامه. بدون هذا الاكرام سيجد نفسه أمام خيارين: إما أن يموت جوعًا، وإما أن يسلب ما يمكن أن يقيم به اوده. هناك حديث شريف أوردته في الكتاب: قالوا يا رسول الله، ننزل بأقوامٌ فلا يقروننا. قال عليه الصلاة والسلام: إن لم يفعلوا فخذوا منهم حقَّ الضيف. والحديث تداولته الشروح والعلل، لكنه يصوّر المأزق. “خذوا منهم” . اذن البديل هو أن تكرم الضيف، كأنما تفتدي بعض مالك ببعضه. هذه هي التجربة الكامنة كانت خلف الخطاب، والتي حجبتها عنا عادة أن نأخذ الكرم باعتباره خليقة وسجيّة وطبيعة، وكأنما يولد العربي كريما! هو تأسس من منطلق الضرورة ولكن حول لكي يصبح خلقا وقابلا أن يتقبل. هو اذن يكرم بسجيته غاضا الطرف عن أن الأصل في المسألة هو أن يفدي ماله ببعض ماله. ما صنعته أنا هو أنني وجدت في الشواهد العربية – شعرًا وقصًا وأمثالًا وتشبيهات وصورًا واستعارات – ما يمكن ان يكشف لي هذا البُعد الخفي للتجربة، البعد الذي ظلّ محجوبًا بالتصوّرات “الميتافيزيقية” للكرم.