بعد مرور وقتٍ قصيرٍ من الأيام الثقافية اليمنية ضمن مبادرة انسجام عالمي التي نظمتها وزارة الإعلام السعودية وما لاقتها من نجاح باهر وملفت، ومن إقبال جماهيري منقطع النظير؛ جاءت فعالية الأوركسترا اليمنية التي ضم أنغامَها تحت جناحيه؛ مركزُ الملك فهد الثقافي. وبعد جولة مميزة لفرقة الأوركسترا اليمنية في عدة عواصم عربية وأروبية كانت الوجهة هي عاصمة القرار العربي الرياض. وما إن تم الإعلان عن الفعالية حتى نفدت التذاكر في نفس الليلة. قد يظن البعض أن الجمهور اليمني على كثرته هو سبب نفاذ هذه التذاكر. غير أن الواقع أثبت عكس ذلك فقد كان حضور الأشقاء من المملكة العربية السعودية ربما هو الأكثر والأبرز وليس من المملكة فحسب بل من عدة دول عربية وغير عربية. لقد تنوعت الفقرات الموسيقية التي قدمتها فرقة الأوركسترا اليمنية بقيادة الفنان المبدع/ محمد القحوم بين التراث الغنائي للبلدين الشقيقين مع إضافة نكهة عالمية لكل اغنية من الأغاني المختارة التي صاحبها عزفُ فرقة الأوركسترا الضخمة بكورال قوامه أكثر من ألف شخص من الحضور. والجميل في الأمر أن المستمع من غير البلدين، اليمن والمملكة العربية السعودية، لا يكاد يميّز هل هذه أغنية يمنية أم سعودية؟ وذلك لشدة تفاعل الجمهور وتلقيه المبهر لكل وصلةٍ على حدة. عزفت الفرقة، وغنى نخبة من الفنانين اليمنيين والسعودين؛ باقاتٍ فاتنةٍ من أغاني البلدين، وعزف العازفون على أوتار قلوبهم قبل آلاتهم وهو ما لمسه جميع الحاضرين. وبقدر ما كانت اللوحات الموسيقية مهيبةً ومتمازجة إلا أنها كانت أشبه ما تكون بدرجات سلم تتصاعد من ذروة إلى ذروة متنقلة بين الأغاني العاطفية وأغاني الأفراح والأغاني الراقصة واختتامًا بالأغاني الوطنية. ولا شك أن الملاحظ لهذا العرض الأوركسترالي في عدة عواصم عربية وغير عربية سيدرك أن نسخة الرياض كانت الأجمل حتى الآن، فقد تميزت بكثافة الحضور وجسّدت التقارب الثقافي الكبير بين البلدين والذي ليس أقدر من الفن على إظهاره والتعبير عنه. كانت كل فقرة من فقرات النغم المشترك بين البلدين تموج بالحضور تصفيقًا وتفاعلًا وتركض بمشاعرهم إلى الفقرة التالية بشغف كبير. وقد مثلت الانطلاقة بمقطوعة راقصة من مزمار “الهبيش” وهي من اللون الحضرمي المعروف ب”المشاقطي” وهو نوع من العزف بآلة المزمار ذات البعد الفرائحي الراقص والتي تعبر أغلب الظن عن البيئة السواحلية. ثم انتقلت الفرقة إلى مقطوعة من تأليف قائد الفرقة الأوركسترالية تحت عنوان “نبض الماضي” مستقاةٍ من عبق الدان الحضرمي. استهلها عازف الكمان الكبير عبدالعزيز مكرد وصب فيها كل احساسه وخبرته وتفرده لتلتحق به باقي الفرقة وتتمايل معهم القلوب على تموجات الداني الحضرمي. وما إن ألقت معزوفة “نبض الماضي بآخر نغماتها” حتى أطل العملاق أبوبكر سالم بالفقيه بحضوره الساحر المهيب من خلف الذكريات وعبر أوتار الألات الموسيقية ومن خلف شلالات النغم الخالد لنغني معه ومع الفرقة ما علينا يا حبيبي ما علينا من كلام الناس ما كنا درينا. ومن سواحل حضرموت وفنها وطيبة أهلها وعبقرية مبدعيها كانت الرحلة رغم طول المسافة أقرب إلى القلب من نغمة شاردة حطت رحالها في “وادي بنا” بأغنية خطر غصن القنا، والتي أشرقت بصوت الفنان القدير حسين محب لتضيء فضاء القاعة وتصدح في آفاق الروح. ومن حسين محب إلى فراشة النغم اليمني وسفيرته الأصيلة أروى التي رافقت الفرقة في أغنية “ أيش جابك” والتي رغم عدم الانسجام الوضح بينها وبين الفرقة بسبب خطأٍ فني إلا أن حضور أروى كان كفيلًا بأن يجعل لليلة مذاقًا بديعًا ومختلفًا أكده ظهورها المعهود والواثق في الفقرة التالية. 17مقطوعة موسيقة معبرة عن تراث البلدين شملت الألوان الحضرمية والصنعانية والينبعاوية والربش والبرع وأغنية لأيوب طارش الخاصة بزفة العرس والتي كانت ملح الأمسية إضافة إلى ميدلي وطني سعودي وآخر يمني أشعلت حماس الحضور ورددا خلف الفرقة بصوت واحد يا سلامي عليكم يالسعودية، وأنا يمني للحد الذي لا يمكنك التفريق في أيهما السعودي وأيهما اليمني. لتختم الليلة بالنشيد الوطني اليمني الذي يذكرنا أن اليمن سيعود لأهله ولن يقبل الوصاية الإيرانية عليه. وختامًا إن ما يقوم به المبدع محمد القحوم وفريقه ومن خلفهم رجل الأعمال القدير عبدالله بقشان جهدٌ حريٌ بالتقدير فهو يؤرخ لموسيقى وطن وينقل صورة جميلة لشعب يتخطفه الموت في الواقع، وفي نشرات الأخبار، كما لا ننسى الدور الكبير لمعالي وزير الإعلام والثقافة والسياحة معمر الإرياني الذي يسخر كل الجهود المتاحة لإنجاح مثل هذه الفعاليات. ولن ننسى أن نشكر الأشقاء في المملكة العربية السعودية الذين يشعروننا أن لكل ما هو يمني في المملكة العربية السعودية؛ نكهة الوطن.