في كتاب «الحشاشون» للكاتبة التركية عائشة أتيجي أرايانجان..

تجاهل الحقيقة وتبني الأسطورة.

من هو حسن الصبّاح حقا؟ هل هو داعية استثنائي من أبناء الطائفة الإسماعيلية، استطاع أن يقيم عدة دويلات شيعية في قلب العالم السني، أم أنه “إرهابي” من دهاة القرون الوسطى، حارب إمبراطورية السلاجقة في عقر دارها وعز مجدها، وأنشأ تنظيم “الحشاشين” أول جماعة إرهابية في التاريخ؟ كتاب “الحشاشون: الأساطير والحقائق” الصادر مؤخرا في بيروت، للكاتبة التركية عائشة أتيجي أرايانجان، واحد من عدة كتب ظهرت بعد نجاح مسلسل “الحشاشين” في رمضان الماضي، كرد فعل لما حققه المسلسل من صدى إعلامي كبير، رغم اعتماده على الخيال أكثر من الحقيقة. وهو صدى أوجد حالة من الجدل بين طيف واسع من الجمهور العربي حول شخصية الصبّاح، وحقيقة الجماعة التي أسسها في القرن الثاني عشر الميلادي. ولم يختلف المؤرخون، قدامى ومعاصرين، على شخص في التاريخ كما اختلفوا على الصبّاح، الذي كان يقرأ ويكتب بأربع لغات، هي العربية والفارسية والتركية واللاتينية، ومتبحرا في علوم الهندسة والفلك والكيمياء والسيمياء. والأخير، السيمياء، ليس علما بمعنى الكلمة، بل هو مسعى خرافي اشتغل عليه بعض الكيميائيين العرب الأوائل، قائم على إمكانية تحويل النحاس إلى ذهب باستخدام “حجر الفلاسفة”. وبالمناسبة، فمن المستحيل على الشخص، وفق التصور الإسماعيلي، أن يكتسب المعرفة بطريقة “التعلّم الذاتي” مثلا، بل عليه أن يتتلمذ خطوة بعد خطوة على يديّ معلّم، حصّل - بدروه- العلم عن طريق الإمام. لذلك عُرفوا في الأدبيات التاريخية باسم “التعليمية”. وجاء في بعض كتبهم، أن المعلّم الحق هو “حجر الفلاسفة”، ومُريده هو النحاس الذي سيتحوّل بلمسة منه إلى ذهب! التنظيم السري الإسماعيلي كان عمر الصبّاح 17 سنة حينما بدأت تنتابه شكوك حول الإسلام نفسه، فتحوّل على إثر مرض خطير أصابه من مذهب الشيعة الإمامية (الاثني عشرية) إلى المذهب الإسماعيلي، نسبة إلى إسماعيل الابن الأكبر المخُتلف عليه للإمام جعفر الصادق، والذي مات شابا، ويُقال إن والده “جعفر” قتله بالسم بعد أن نصحه مرارا بالكف عن معاقرة الخمر، ولم يرتدع. فكلّف الأب أحد علماء الكيمياء في عصره بأن يصنع له سما لا يُكتشف أثره لكي يقتل الابن، وقد كان. ويحكي حسن، وفق الكتاب، في موضع من سيرته المكتوبة بالفارسية والمُسماة “سيرة سيدنا”: “كنت من طائفة الاثني عشرية، وهو مذهب أجدادي. وكان هناك شخص اسم أمير ضرّاب من الطائفة الإسماعيلية في مدينة الرِي، حيث نشأت. كنا نتجادل حول المذاهب، ودائما ما يدحض آرائي ويهين مذهبي. في ذلك الوقت، لم يكن إيماني قويا. ورغم أنني قاومت، فقد ظل أثر كلماته في قلبي، لكني لم أتمكن من الحديث عن ذلك لأي شخص بسبب تعصبي الشديد”. يضيف: “في ذلك الوقت، أُصبت بمرض خطير. وقلت لنفسي: إذا جاء موعد الموت، فسأموت دون أن أصل إلى الحقيقة. ولكن، بسبب هذا التغيير في الاعتقاد الذي حدث معي، تغلبت على المرض دون معونة طبيب. وعرفت، بعد أن تعافيت، أسرار الطائفة من شخص آخر يُدعى نجم الدين السراج، فأصبحت واحدا من أتباعها المخلصين”. وكان لابد أن يدخل الصبّاح إلى الطائفة على يد أحد الدُعاة المعتمدين من التنظيم السري الإسماعيلي. فلم تكن مسألة الالتحاق بالطائفة أمرا متاحا لكل شخص، بل تطلّب الأمر تزكية من عبد الملك بن عطّاش، الداعية الأول في منطقة بلاد فارس، فوافق على التحاق حسن بالجماعة، وكلّفه بمهام كبرى صنعت منه ذلك الرجل المثير للجدل، الذي عرفه التاريخ بعد ذلك. أول مهمة كانت السفر إلى مصر، ومقابلة الخليفة الفاطمي المستنصر، وأخذ الإذن منه لإقامة إمارة تابعة له في إيران، التي كانت ضمن مناطق سيطرة السلاجقة السُنة وقتها. وبناء على ذلك التكليف، تخفى الصبّاح في زي تاجر، وسافر عبر سيناء ومنها إلى القاهرة، مع قافلة من الجمال محملة ببضائع من الشام. أقام في القاهرة 18 شهرا، وليس 3 سنوات كما تقول المؤلفة، قابل خلالها المستنصر مرة واحدة. وشهد الصراع على السلطة بين ابنيّ الخليفة نزار والمستعلي، فانحاز إلى أنصار نزار حتى قُتل الأخير، فبات الصبّاح مُطاردا من رجال المستعلي. واستطاع الهرب إلى الإسكندرية، والتحق بباخرة مسافرة إلى بلاد الشام. الهروب من مصر بعد من هروبه من مصر، تخفى في زي الدراويش المتجولين، وظل يجوب مناطق سيطرة الإمبراطورية في أنحاء بلاد فارس لمدة 9 أعوام، حيث أقام في المباني الملحقة بالمساجد وتكايا المتصوفة، المنتشرة عبر مدن “كرمان ودمغان ويزد”، وراح يدعو سرا إلى إمامة نجل نزار بن المستنصر. وبعد 6 سنوات من التجوال والدعاية ضد الخليفة العباسي، تبيّن له أن من الأفضل اختيار المناطق الجبلية في إيران، وتحديدا “جيلان وديلم ومازندران”، مناطق سُكنى القبائل المتمردة على حكم العباسيين وحلفائهم السلاجقة، فظل يتنقّل سرا هناك 3 أعوام أخرى، ويمارس دعوته خفية في حذر شديد. وفي عام 1090 م، تسلل إلى قلعة “آلموت” بمنطقة الديلم، التي كانت ملكا لرجل اسمه المهدي من نسل الحسين بن علي. عاش الصبّاح في القلعة فترة تحت اسم “دهودا” مخفيا هويته الحقيقية، واستطاع أن يقنع معظم الحراس باعتناق مذهبه، حتى انقلبوا جميعا وهو معهم على المهدي، وخيّروه بين بيع الحصن أو طرده منه بالقوة، فاختار البيع. وحصل مقابل ذلك على ثلاثة آلاف دينار ذهبا، لم يصدق نفسه وهو يحصل عليها. في ذلك الوقت، كانت الدولة السلجوقية تشهد صراعا داخليا، فعمل النزاريون بقيادة “شيخ الجبل” دون توقف على استغلال هذا الاضطراب، وحوّلوا “آلموت” إلى حصن منيع يمكن أن يصمد أمام أي حصار زمنا طويلا. وتقول الكاتبة إن السلطان السلجوقي “بركياروق” لم يتمكن من مواجهة الإسماعيليين بسبب الحرب الأهلية، واضطر أن يغض الطرف عنهم على مضض. وبينما كان هؤلاء يرسلون دعاة نشطين إلى الأراضي السلجوقية، ويؤثرون على الجهلة منهم، بدأوا - من ناحية أخرى- في قتل الذين يعارضون معتقداتهم بالخناجر عبر “الفدائيين”. وتشير إلى أن لزعيم “الحشاشين” عدة كتب، لم ينج منها بعد أن دمر المغول قلعة “آلموت” سوى كتاب واحد، اسمه “الفصول الأربعة”، أورد فيه بعضا من أصول طريقته التعليمية، وأعطى لحركته اسم “الدعوة الجديدة، تمييزا لها عن دعوة الفاطميين التي انطلقت من مدينة “سلمية” السورية، ووضع أسسها علماء الجامع الأزهر خلال حقبة الحكم الفاطمي. توفي الصبّاح يوم الجمعة 23 مايو عام 1124، في التسعين من عمره، وتم دفنه بعد طقوس احتفالية كبيرة استمرت 3 أيام في مقبرة بُنيت خلال حياته بجوار قلعة “آلموت”. وظل قبره مزارا لأبناء الطائفة حتى دمّره المغول، مع القلعة نفسها في القرن الثالث عشر، وذبحوا خلال ذلك 12 ألف شخص. سيد “الدعاية المظلمة” يواجه الباحث المعاصر في تاريخ النزاريين خلال فترة الصبّاح صعوبة في استجلاء حقيقتهم، بسبب تضارب الروايات عنهم. خصوصا أن “سيد آلموت” الذي قضى فيها 35 عاما من عمره ولم يغادرها أبدا حتى وفاته، لجأ إلى أساليب جهنمية لإنشاء قلاع حصينة، كانت بمثابة دويلات إسماعيلية استمرت لمدة 166 سنة. وذلك اعتمادا على مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”. وكان أول من ابتكر أسلوب “الدعاية المظلمة” في التاريخ. رغم ذلك، تقول المؤلفة، إنه لا ينبغي إنكار مكانة النزاريين عبر فصول التاريخ الإسلامي، لكونهم لعبوا الدور القيادي في فترة مضطربة. صحيح أنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم، لكنهم شكلّوا تهديدا سياسيا ودينيا واجتماعيا خطيرا للنظام القائم، وأصبحوا جزءا من سلسلة دعاية مظلمة وشعبية للغاية، اتخذت طابعا دينيا، وكانت موجهة بالأساس إلى “الجهلة” من المعاصرين، حسب تعبير الكاتبة. ويختفي عبر صفحات الكتاب ذلك الخيط الرفيع، الفاصل بين الإرهاب والعمل الثوري في حالة “تنظيم الحشاشين”، تماما كما حدث مع تنظيمات مسلحة أخرى في مراحل تاريخية لاحقة، من بينها “بادر ماينهوف” الألماني و”الألوية الحمراء” الإيطالي، وغيرهما من التنظيمات اليسارية التي ظهرت خلال القرن العشرين، واستخدمت أسلوب الهجمات الإرهابية. ولكنها فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة، في نهاية المطاف. وهنا، نتوقف عند نقطة بالغة الأهمية. وهي تبرير الباحثة التركية أعمال العنف الدموية التي ارتكبها أتباع الصبّاح ممن سمّتهم “الفدائيين”، بأنها كانت الوسيلة المتبعة آنذاك لـ “تغيير العالم”. وحسب هذا المعتقد، جرى اغتيال نحو 30 ألف من رجال الدولة في إيران وخراسان والعراق وأذربيجان. وكان في “قوائم الاغتيالات” المعلقة على جدران قلعة آلموت، 74 شخصا من الأمراء والوزراء والقضاة والولاة. في الوقت نفسه، لا تبرر الباحثة قيام الصبّاح بقتل ابنيّه “محمد” و”الحسين”، فقد لقي الأول مصرعه تحت تأثير الجَلد حينما أقام عليه أبوه “حد الخمر”، بعد أن ضبطه وهو يتعاطى النبيذ. بينما مات الابن الثاني بعد اتهامه ظلما في مؤامرة داخلية بقتل أحد الأتباع، فأُقيم عليه “حد القصاص”، مشيرة إلى أن الأب ندم ندما شديدا بعد موت الابن، وأمر بقتل الضالعين في هذه المؤامرة أيضا. من جهة أخرى، وقعت الكاتبة على مدار الكتاب في أخطاء جسيمة، لم يكن لها أن تقع فيها، من بينها ما ورد في صحفتي 16 و17 حيث تقول: “بعد استيلاء حسن على قلعة آلموت، وإعلان استقلاله (عن السلاجقة) لم يستخدم أبدا لقب سلطان أو أمير، واكتفى بلقب (سيدنا)، دون أن يطلق دعوة دينية باسمه. وبينما انتظر ظهور الإمام السري لنشر الدين، كان بمثابة الدليل لهذا الإمام القادم”. ومن المعلوم أن الطائفة “الاثني عشرية” هي وحدها، من بين طوائف الشيعة، التي تعتقد في وجود الإمام الغائب، أو المهدي المنتظر، وهو - حسب معتقدهم- الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، الذي اختفى داخل سرداب في مدينة سامراء العراقية عام 874 م. أما الطائفة الإسماعيلية فإمامها حاضر على الدوام، سواء كان في شخص الخليفة الفاطمي قديما، أو كريم الحسيني “آغاخان الرابع” في الوقت الراهن. وهو وجه الخلاف الأصيل بينها وبين الطوائف الأخرى، بل هو أمر أساسي في الانقسام الشيعي الذي يعود تاريخه إلى أكثر من ألف عام. وهذا الأمر يعرفه أي باحث مبتدئ في تاريخ الشيعة. كما يؤخذ على “أرايانجان” أيضا انحيازها شبه التام للرواية الإسماعيلية، وتجاهلها كتابات المؤرخين والباحثين من الطوائف الأخرى، ناهيك عن مؤرخي وفقهاء السُنة، وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي، الذين قدّموا رواية مختلفة تماما، ظهر فيها الصبّاح كزعيم لأول تنظيم إرهابي في التاريخ. كما ظهر أبناء الطائفة، عموما، في صورة “الباطنية” الحاقدين على الإسلام و”الخارجين عن الملة”. أخيرا، تعود المؤلفة إلى السؤال الصعب: “في النهاية، هل كان مجتمع النزاريين في مناطق حكمهم الذاتي، دولة أم تنظيما أم طائفة؟ الجواب العام على مثل هذا السؤال، هو أن الحركة التي بدأها حسن الصبّاح بهوية دينية وأيديولوجية، تحولت إلى تنظيم مسلح من حيث الأساليب الدعائية التي ابتكرها، وأصبحت دولة مستقلة حافظت على وجودها خلال فترة طويلة من الزمن”. *صحافي، عضو اتحاد كُتاب مصر.