جارالله!

(أ) مبدع، متميز، متفرد، أحد رواد الحداثة السردية، والحديث عن إبداع جارالله الحميد شاسع، وسيأخذنا إلى مدارات، وعوالم موحشة، فله لغة خاصة، صافية، عذبة، حزينة، وكتابات جريئة لا يشبهه فيها أحد إلى اليوم. لكني سأتحدث عن (جار) الإنسان، المتقلب المزاج، الحاد الطبائع، العبثي حد الجنون، خفيف الروح، نبيه الحضور، إذا أحب إنساناً لا يمكن أن يتخلى عنه، وما على الآخر إلا تحمل شطحات جارالله بقلب أبيض، والاستمتاع بمجالسته والإصغاء إلى أحاديثه. أحفظ له مواقف، ومقولات خالدة، فكثيرا ما كنت ألتقي به، إذا جاء للرياض وبقي فيها أياما، وما أكثر الأصدقاء الذين يحبهم ويحبونه، ومنهم الشاعر علي بافقيه، كان يزوره ويبقى في ضيافته أياماً، وفي إحدى تلك الزيارات، كنا نسهر في بيت بافقيه، ولم أعد أذكر المناسبة، لكن صديقه الحميم القاص عبد الله بامحرز، أحضر معه لخماً، وهو سمك قديم، يعرفه سكان سواحل جنوب الجزيرة العربية، وكان يجلس بجانب جارالله، ويبدو أنه انزعج من رائحة السمك، فسأل عبد الله: - ما هذا؟ فرد بامحرز الذي فطن لمزاج صديقه، فقال مداعباً: - ذهب! فمد جارالله يده، وقذف بشيء بامحرز من النافذة! أما الصديق القاص المصري جار النبي الحلو، والصديق إبراهيم أصلان، ومعهما بعض الأصدقاء من أدباء مصر، فقد أقبل عدد منهم، كتاب السرد في الثمانينات، وفي بداية أيام الجنادرية الأولى، للسلام علينا في غرفة عبد العزيز مشري، بأحد فنادق العاصمة مقر الندوات، فطلبنا منهم السهر معنا، فاعتذروا، ولم يعجب ذلك جارالله الحميد، فقال مخاطباً جار النبي الحلو مازحاً: - إذا كنت جار النبي، فأنا جارالله! ضحكنا جميعا، وأكملنا السهر معاً في واحدة من أجمل الليالي. رحم الله جارالله، المبدع المتفرد، والإنسان المتفرد أيضاً، كاتب يفيض كما تفيض الينابيع، اللغة التي يكتب بها جارالله خالدة، جنون جارالله الحميد محببُ، الجنون خروج من القطيع وتجاوز القطيع، ولا يكترث بما يسمى جنون جارالله الحميد، ألم يكن العباقرة مجانين!! (ب) لن أنساق في هذا الفضاء المفتوح، لتجريب ذهني تأويلي كتابي، سأحفر في مسامات الروح، وأتصيد فراشات القلب، وأعيد جدولة المسافات، والأزمنة، والأمكنة، وأسرجها فوق خيول بيضاء، تركض في سهوب العشق والتأله، سأنتقي كلماتي، لكيلا تجرح ولا تخدش، سأتخلى عن قواميس العشاق، واللغة المبذولة في الطرقات، وأصنع لها عرشاً لم تحظ به بلقيس، ولم ترنو إليه أي من طابور نساء، امتشقن من أوردتي أوتاراً لحناجرهن، وأكتب لها سفراً جديدا من القلب، وللقلب رسولاً.. ياااه!! صحّ النوم يا غافل! قلت لنفسي: لماذا كل هذا الصخب / كل هذا الشغف / كل هذا الجدل؟ وهل هناك محطة بين العشاق، يستريحون فيها ليتجدد صهيلهم، وركضهم، ويلقى في وعيهم نداء اليقين؟ لا داع للمداراة، إذ عكفت معشوقة القلب، ترسل نوتتها بمزاج العنفوان المشترك، وممزوجا بمذاق الغيرة، والحزن، والشك، والنزق، والألم، والياس الذي لابد يفضي إلى علامات وأسئلة، تتراوح بين الهلاك والرجاء، فتلتهم النار المقدسة إلى آخر ذرة من رماد أي بادرة محتملة . أي بوح هذا الذي يعجز أن يصل إلى نقطة التلاشي، ولا ينفجر نبض القلب وغاباته المتوحشة، ويوحي بالكلمة الأخيرة الفاصلة، حتى تخيلتني كالذي ضغط على الزناد، وهو يعلم أن بيت سلاحه فارغاً؟ سأرمم حروفي، وأهب حياتي ثمناً لكلمة، وأتجرع العذاب حتى الثمالة، أعشقك عبارة ليست منفلتة من لمعة الوجد، أو مجرد عبارة كغصن من شجرة، انتزعتها ريح عاتية، لتقذف بها في نفايات الزمن، ولا لتداري غيرة شكلتها حيل نسائية، وكأنها عدسة تكبر الأشياء الصغيرة، ولكن لتعلم أن كل ما حدث، عشق قوي كالموت، وغيرة قاسية كالقبر!