الخريف الأخير.

أتى الخريف الذي تحبه يا أبي .. حقيقيا ً كروحك .. صادقاً كعهدك لكنه أتى هذه المرة شاحبا بالأسى ،متألما لأوجاعك وأنت ترقد على سرير المرض ، شاهدا لآخر مشهد شجاع في معركتك مع الموت، الحقيقة التي يفر من ذكرها البشر . يداعبك حفيدك يهمس في أذنك ولأنك لا تستطيع الحديث ، تشير بإصبعك ( علامة النصر ) لله در عزيمتك إيمانك وصبرك . في المرة التي قرر الأطباء ( عمليه قلب مفتوح) قبل ١٨ سنة ، أشار أخي لدكتور خارج البلاد ذا خبرة جيده لهذا النوع من العمليات ، لكنك رفضت الخروج وواجهت القدر بقلب قوي لإيمانك العميق وحسن توكلك ، كنت تعطينا درس إيماني راسخ ، الله لا ينسى يا أبي . ذات سفر قبل أربعين سنه ونحن في طريقنا من الكويت إلى الحجاز في (رحلة سياحية) داهمك ألم في الصدر توقفنا في الرياض عملت الفحوصات التي كانت تشير لعلامات (جلطة قلبيه) ولم تنتظر النتيجه حتى لا نتأخر ، في اليوم التالي واصلت الرحلة على الرغم من محاولاتنا في ثنيك عن إكمالها ، تحاملت على التعب الذي اشتد والتوقف المتقطع كل بضعة كيلومترات في المحطات كان يشير أنك لست بخير ، كل هذا حتى لا شيءٍ يحول عن وعدك المخطط له في إسعادنا ، اقبلنا على مشارف الطايف التي لأول مرة نزورها وترجل أبي عن مقود السيارة حين وفى بكلمته. زهت الدنيا في عيون المفتونين، لكنك أدرت ظهرك عنها ، وصفك البعض بعدم ( الدبرة ) والعناد ، لكنك كنت أنت ..، أنفا (بلا)، ( لا ) التي كنت فيها حرا عن عبودية ما يجمعون ولا يطيب! أتتك الدنيا مرغمة فاكتفيت عنها بنصيبك وجهدك . حتى في بنك الحياة كنت تستثمر في المروءة عقود تعاملاتك ووعودك وكلماتك نازحاً لفضيلة النبل والصمت . في السنوات الأخيرة كنت كلما زرتك تعانقني بنظرات الحب والحنان وأنت جالس مقعد لكنك تفعل ، تفعل الكثير . من يتجرأ ويخبر الحب أن الموت كان يشاركنا الجلسة ،يعقد معنا حوارا كل يوم ينظر في وجوهنا يمشي معنا وينام ، رأيته وهو يحوم فوق طبق ( الشوربه ) التي كنت أناولك وأنا أقرض أظافرك حتى وأنا أقبلك . أتى الخريف وظل الشجرة التي زرعتها في نجد يمتد قاطعاً الزمن والمسافات . أتى الخريف الأخير بأجنحة بيضاء وحلق بك بعيدا ، لمكان أوسع رحمة ونقاء . في أيام عزائك حضر الجميع شهداء الله في أرضه الغيم والبحر والحكمة عزتني فيك تنعيك الكلمة عربون أمانها تنعيك المواقف لما اهتز عمودها . تبكيك نجد العذية وأنت من زحول رجالها. أبا عايض « قد مات قوم وما ماتت فضائلهم وعاش قوم وهم في الناس أموات» طويت صفحة العمر دنيا الفناء ،خلدت في طيب الأثر عمر ثاني بشرت بالريحان مع الذين تحبهم ، في جنة الخلد ألقاك وتلقاني أودعتك الرحيم برحمته الواسعة وجمعني بك في عالي الجنان وجعل كل دعاء مني نورا يضيء طريقك ويعلو به درجاتك .. اللهم آمين