يقول البعض إن السينما بدأت وثائقية لأنها كانت تصور لقطات أو مشاهد من الواقع إلى أن دخل عالمها جورج لومييه بإبداعاته (مثل رحلة إلى القمر 1902). ولكن هذا قول لا يستقيم وهو أشبه بأن نقول عرف الإنسان البيوت منذ قديم الزمان حيث كان يسكن في الكهوف. ذلك أن السينما الوثائقية (يسميها البعض وخصوصا في مصر “التسجيلية”) ليست مجرد كاميرا تُنصب في مكان ما وتسجل ما يدور أمامها فحسب. بل هي عمل إبداعي له قواعده ولابد من جهد بشري وتدخل فني في خلقه. في فيلم رجل مع كاميرا في 1929 تجول دزيجا فيرتوف في مدن مختلفة من أوكرانيا وصور الناس مجاميع وأفراداً في لقطات طويلة، ولكنه في عملية المونتاج الخلاق قدم هذه التحفة السينمائية الصامتة بمساعدة زوجه يليزافيتا سفيلوفا. أما المخرج الأمريكي روبرت فلاهرتي (1884 - 1951) فقد عاش سنوات مع رجل الإسكيمو “نانوك” وعائلته في شمال كندا وأقام مختبرا للأفلام هناك وخرج عام 1922 بفيلم “نانوك الشمال” وحقق نجاحا كبيرا ويعده قسم من النقاد أنه أول فيلم وثائقي. وفي عام 1926 صاغ الأسكتلندي “جون جريرستون” مصطلح الفيلم الوثائقي عند وصفه لفيلم “موانا” من إخراج “فلاهرتي” وعرف الفيلم الوثائقي بأنه “التجسيد الفني للواقع” وهو التعريف الذي أثبت صموده؛ ربما لمرونته الشديدة كما تقول باتريشا أوفرهايدي في كتابها “مقدمة قصيرة جدا إلى الفيلم الوثائقي”. للفيلم الوثائقي أغراض كثيرة كما إن له أنواعاً متعددة ونظريات مختلفة، ولكن تبقى شروطه الفنية كما هي وأهم شيء فيها البحث الدقيق والموسع، ثم الإعداد (السيناريو)، فالإخراج الفني، ويليه ما بعد التصوير من مونتاج وموسيقا وتصحيح ألوان وإضافة مؤثرات إلخ. فيلم “صالح الفوزان يقدم”(1) قدمته المخرجة “عبير العنزي” في مهرجان أفلام السعودية 9 (2023) حيث تم تكريمه والناقد والمترجم البحريني أمين صالح. في تقديري أرى أن الفيلم عالي الجودة؛ ولذا ارتأيت أن اتخذه مثالا مع أنه ليس وثائقيا 100 % فهو -إن صح التعبير- فيلم “تكريمي” كما أنه قصير لا يتجاوز 8 دقائق وهذا يستدعي التكثيف في جوانب، وعدم التطرق إلى أخرى، وحذف أخريات. تلعب أشرطة الفيديو دورا مهما في حياة صالح الفوزان. حيث كان محل لتأجير أشرطة الفيديو نقطة انطلاقه إلى التوزيع، ثم الإنتاج، ثم الإخراج (مساعد مخرج) ويحلم بإخراج عدد من الأفلام. بداية الفيلم موفقة ومعبرة وصنعت بعناية فائقة: شاشة زرقاء عليها كلمة إخراج (Eject لا Direct) جهاز تشغيل فيديو فوقه ثلاثة أعمدة من أشرطة الفيديو وجهاز تلفزيون تحته. فيلم “الحب في ظروف صعبة”(2) في مدخل جهاز الفيديو تدفعه يد ليدخل ويكون جاهزا للعمل. تضغط اليد على زر الترجيع Rewind ثم يبدأ العرض تتشكل على الشاشة شعار (لوجو) شركة شامل ويتصاعد صوت المذيعة المصرية: “صالح فوزان يقدم: من إنتاج شامل للإنتاج والتوزيع الفني”. ذكرت أن المقدمة عميقة ومعبرة فالفيلم قائم على شريط ذكريات صالح فوزان وكان شريط فيلم “الحب في ظروف صعبة” المعادل الموضوعي لشريط ذكرياته؛ ولهذا ضغطت اليد على زر الإعادة. هل كان اختيار هذا الفيديو اعتباطيا أو لمناسبة لونه للخلفية الفضية؟ في تقديري أنه مقصود ويتبين هذا في مجريات الفيلم. ليس مألوفا وضع جهاز الفيديو فوق التلفزيون لكن المخرجة عمدت إلى ذلك لتأكيد الدور الأساسي لشريط الفيديو في مسيرة الفوزان الفنية. وعندما عرضت الشاشة لوجو شركة شامل كان على التلفزيون شريطا فيديو أو ثلاثة؛ لقد أزيح جهاز الفيديو من المشهد فقد أدى دوره المنشود. أول مشهد في الفيلم لقطة كبيرة لصالح يجلس على ركام بيت قديم في حي شعبي وليس هناك حرص على عمق الصورة فبدت الخلفية باهتة لأن المهم حديث صالح. التصوير بكاميرا محمولة لا تحافظ على ثباتها فتهتز وتتحرك إلى الجانبين والأمام وهي في محلها تقريبا ويظهر وجه صالح تارة جانبا وأخرى مواجها للكاميرا وثالثة بين بين، مما يعطي انطباعا بالواقعية. بل وهناك استخدام لمؤثر بصري (Visual) تبدو فيه اللقطة وكأنها من فيلم قديم. في المشهد يتحدث عن طفولة بائسة وشقية ومغامرته واثنين من رفاقه في سبيل تذوق الشاورما لأول مرة! اللقطة موفقة: زاوية مرتفعة نوعا ما، ومهزوزة عن عمد، عن طفولة متقلبة. ثم قطع من زاوية منخفضة إلى لقطة متوسطة على زاوية من بناء متهالك مرت عليه صروف الزمن ومحاولات الإصلاح (وربما ما زال مأهولا). ثم قطع إلى لقطة عامة متوسطة حيث يجلس صالح نصف جلسة إلى دكة حجرية ويستند إلى زاوية (عاير) فيظهر البيت القديم المتهالك مطلعا على شارعين في الحي الذي كان يقيم فيه مع أمه في طفولته، حتى صالح الذي يحتل تقريبا 10% من اللقطة (الصورة) يقف على شارعين. صوت صالح من خارج الكادر (Over voice) يقول صالح للمخرجة: “طبعا أنا مقسومة حياتي نصين. انتبهي! حياتي نص فقيرة مع أمي وجدتي، وحياتي مع الأب الغني الملياردير اللي عايش في عليشة”. اللقطة واختيار الركن معبر جدا في رمزيته على الانقسام الذي يتحدث عنه، وجرأة اجتماعية يشكر عليها. ثم نعود إلى المتحدث في ذات المكان، ولكن هذه المرة بزاوية منخفضة قليلا. (3) ويستمر في حديثه مع لقطات له يتجول في الحي القديم (الحساني) حيث عاش معظم طفولته مع أمه وجدته فيه. ثم قطع -أراه مربكا بعض الشيء- إلى لقطات متحركة لصالح في مصر مع مجموعة من العاملين في المجال السينمائي وتصحب هذه اللقطات مقطوعة جوسيتا الجميلة الحالمة (4). نعود إلى صالح يتحدث في تلك المنطقة الشعبية: “أنا ماني من النوع المؤمن بأنه في إنسان كان يحلم، يعني يمكن في بعض الناس تحلم، ثم حققت طموحاته، أنا ما حصل، كان في البيوت، كنا نعرض الأفلام. وبعدين صرنا ننتقل للأندية أو للسينمات الموجودة، كان فيه تقريبا السينماتين في الرياض” في أي سياق كان هذا الكلام؟ لا نعرف! ثم يكمل الحديث شكليا (لأن هناك قطعاً ناعماً في شريط الصوت) فيأتي إلى الحديث عن محل الفيديو الذي شكل الخطوة الأولى له ليلج عالم الأفلام والسينما فيقول: “فكانت جنبنا وزارة العدل، أنا كنت في شارع العصارات مقابل بوابة مستشفى الشميسي.. إلخ”. ولكن معظم الحديث هنا وهو في بيته في لقطات تتراوح ما بين كبيرة متوسطة (Medium Close-UP) إلى متوسطة (Medium shot). الحديث صوّر مرتين على الأقل، وفي مكانين مختلفين وعُمل المونتاج باحترافية عالية، ولكن الفيلم تعرض لعميلات حذف ولذا وصفت هذه القفزة في مسار الفيلم بأنها مربكة. ومن المؤكد أن الحذف حدث لأن المطلوب فيلم “تكريمي” قصير وليس وثائقياً مفصلاً. يستمر في الحديث عن توسعه في مجال الفيديو وتعاقده مع الشركة اللبنانية “صباح العالمية للفيديو” ثم مع روتانا ومحمد هاشم ناقرو وسفره معه إلى مصر ثم استقراره فيها ردحا من الزمن واقتحام عالم التوزيع والانتاج ثم الذهاب إلى تونس وبلجيكا فالإقامة في لبنان حوالي 20 عاما. ولأن الحديث عن مسيرة الطائر المهاجر الفنية حتى عودته زمن الكورونا ليلقي عصاه ويستقر به النوى في الرياض تتخلل حديثه كثير من اللقطات المتحركة والثابتة بسلاسة ونعومة ولقطات من أفلام ظهر فيها صالح فوزان المنتج الشاب ممثلا في لقطات قصيرة. توسل اللقطة المتوسطة في هذا الجزء أراه موفقا للغاية. ذلك أن اللقطة المتوسطة تبين الشخص وتفاصيله ومحيطه. فصالح هنا يتحدث عن مرحلة أنه بدأ مشوراه والصعوبات التي واجهته والانجازات التي حققها. وجهاز التلفزيون على مسافة قريبة من يساره وأشرطة الفيديو عليه، وهذا أمر غير مألوف في زمننا الحالي حيث انتهى عصر الفيديو، ولكنها إشارة فنية جيدة تربطه ببداياته. في الجزء الأخير من الفيلم يتحدث صالح ببساطة وهدوء عن إصابته بالسرطان وتعامله العقلاني معه وأنه يراه كعبقة أو حفرة يقع فيها الشخص فلا يبقى أسيرها، بل يواصل طريقه. فنراه يمشي في ممر معتم باتجاه باب صغير إلى شارع مضاء ويتجه يسارا، ثم قطع إلى لقطة له في فيلم يوجه الحديث إلى آخر قائلا: “الناس بتموت عشان حاجات أتفه من كده! يالله الحق طيارتك، وانسى اللي حصل”. ثم نراه من جانبه الأيسر (بروفيل) يكمل مشيه بهدوء وثقه في لقطة متوسطة منيرة ذات إطار أسود (نافذة الغرفة المظلمة التي تقبع فيها الكاميرا). هذا المشهد مشحون بالعاطفة الإيجابية ومعبر عن هذا بقوة. تسأله المخرجة عن حلمه فيجيب بصوت جهوري ينضح بالأمل: “حلمي إني أخلص هالفلمين وأخلص الفيلم الثالث والمشروع اللي بعدهم، وإذا بعد ما يخلصون المشاريع ذي أقولك ويش عندي جديد! لأن أنا رجل ما أعرف إيش بسوي بكرا”. قلت هو فيلم تكريمي وليس وثائقيا خالصا ليس لأنه قصير، ولكن مسيرة صالح فوزان تحتاج فيلما أطول ومليئة بمنعطفات ومحطات عدة. كما أنها لدواعي التكريم لم تتطرق لمشاركته بلعبة ما يعرف بـ “أفلام المقاولات” وهو خير من يتكلم بموضوعية عنها ويعترف ويبرر حينا ويقدم الحجج الدفاعية القوية أحيانا أخرى. أفلام المقاولات شارك فيها منتجون وموزعون كثيرون، ولكن وصم المنتجين الخليجيين وحدهم بها وبأنهم سببها وروادها جريمة إعلامية لا بد من التصدي لها. ----------------------------- (1) الفيلم موجود على منصة “فيميو” بعنوان “صالح فوزان يقدم..” Saleh Fozan Presents documentary (2) الفيلم من إخراج سيمون صالح 1996 وليس من انتاج أو توزيع شركة شامل. بل أن المنتج شبه مجهول فلم أجد له عملا غيره (هلالي للإنتاج الفني). (3) إذا شاهدت الفيلم وكنت من ذوي الاهتمام بالسينما: ما الشعور الذي تولد لديك من اللقطتين باختلاف الزاويتين؟ (4) موسيقا جوسيتا Josita 1958 للموسيقار البريطاني رون جودين (Ron Goodwin) الذي وضع موسيقا أكثر من 70 فيلما.