أسمع موسيقاه تدوي صاخبة بالفرح، هكذا أظن، أفتح الباب بهدوء، أدخل، أشعر بذلك حين يجتاحني المكان الذي قد لا أعرفه، أدخل لأرى نفسي جزءا من تكوين غريب يشكله بيت قد يكون مهجوراً على الرغم من أنه يعج بأناس لا أعرفهم، ولا يعرفون أنني أنا الوافد الجديد الذي يتشكل حالياً بينهم ليكون ضمن بيت قد يقال إنه صاخب وسعيد. لا أدري من هو السعيد فعلاً، تلك المرأة التي تحيك ثوب زمن مقبل بيدين ناعمتين، أم ذلك الرجل الذي يكتب على طاولة قديمة قصيدة لا نهاية لها، أم أولئك الرجال الذين يتحركون على الجدران والأسقف بأقدامهم التي تمرغت بالوحل، أو النساء اللاتي رقصن بأقدام ناعمة وممشوقة في بحيرة البجع، أم أنا الذي لا أدرى هل الباب الذي استطعت أن أفتحه وأدخل من خلاله، يطل على غرف منزل أو بهو كبير، أو مساحة منسية من الماضي. هل أنا البطل المنسي في قصيدة ذلك الرجل، لو كنت كذلك ربما تحولت إلى كلمات و لتناقلتني الألسن ، وملأت ليالي الرحلات البرية بقصصي الخيالية من خلال حكاياتهم التي يسردونها وهم مجتمعون حول نار في مكان مظلم ومخيف في غابة أو صحراء، لا يهم تحديداً المكان، المهم أنهم بعيدون عن صخب المدن، ويتدثرون بالصمت وبكلماتي أو بالأصح حكايات بعضهم المخيفة التي تتشكل مني بصفتي كلمات هربت من كتب الأساطير في مكتبة تدثرت بالغبار لقدمها وعراقتها، أنا هنا وهناك، ولكن البطل لم يهرب من قصيدة ذلك الرجل، بل جلس على مقعد خشبي قديم يجرب معطفاً حاكته امرأة هربت من سطوة الزمن. أنا هنا داخل البيت الذي لم أفكر قبل هذا اليوم أن أدخله بسبب أنني لا أشعر أنني أنتمي إليه، وغالباً لا أراه وأنا في طريقي للهروب من أمكنة تحاصرني، ربما هذا اليوم لفت انتباهي صوت موسيقا شعرت أن فيها بعض الفرح، قلت ربما من في الداخل مبتهجون لأنهم عرفوا أنني سأكون بينهم، هكذا توقعت، وهذا ما جعلني أجرؤ على فتح الباب والدخول. أنا هنا داخل هذا البيت، كان الصخب أشبه بالغلاف الشفاف يحيط بذلك البيت من الخارج، ولكن عندما انتبهت لنفسي وأنا داخل البيت، قابلني ممر صغير يفضي لغرفة جلوس، لم أجد في أقصى الغرفة سوى امرأة جالسة منذ عدة قرون، هذا ما شعرت به، لأنني قد شاهدت امرأة شبيهة لها في إحدى كتب التاريخ القديمة، التي تتحدث عن بعض المهاجرين الأوائل المتجهين للعالم الجديد، ربما قبل عصور النهضة، أو قبل الحرب العالمية الأولى، لا أعرف كيف أتحدث معها، وهل ستسمعني، وهل ستترك قطعة النسيج التي بين يديها، لتنتبه لذلك الوافد الغريب، الذي هيئته توحي أنه قادم من الفضاء، هي من الماضي وأنا من الحاضر بل المستقبل لها، الماضي والمستقبل لا يلتقيان في مكان واحد، مطلقاً، أين الحاضر، أحتاج إلى زمن وسط ليجمع بيني وتلك المرأة الشاحبة، أخطو بضع خطوات مترددة تجاهها، أتمنى أن تقف وتنظر إلي وتتوقف عن عملها الرتيب، “سيدتي” أقول بصوت مبحوح، تنظر إلي وتطلب مني مشيرة بيدها أن أجلس بجانبها، على مقعد خشبي عليه زخارف ذهبية جميلة، مقعد وفير ومريح، أجلس وأنتظرها تتحدث، تنظر إلي مرة أخرى وتبتسم، “لماذا تأخرت” كأنها سألتني بهدوء مع ابتسامتها التي بقيت مشعة في وجهي، بحثت عن إجابة مقنعة، فكرت أن أقابلها باتسامه، لكن داخلي يضج بالحزن والألم، جئت هنا بحثاً عن الفرح، بدأت أبكي، خفت أن تختفي ابتسامتها، فغادرت الكرسي، المكان، اتجهت للباب لأغادر، لم يكن هنالك باب، عدت باحثاً عن مخرج، لم أجد المرأة، تلاشت، لأجد نفسي في غرفة، لا، ليست غرفة تماماً، بل مكتبة، ورجل يذكرني بشارلز ديكنز، لا أدري لماذا طرأ على ذهني مباشرة حين رأيته، لكنه ليس هو، بل رجل يكتب، خلف طاولة عليها أوراق، وكتب، والغريب أن هنالك آلة كاتبة بأحرف لاتينية، هو كاتب، لا أدري، هل هو مفكر، فيلسوف، روائي، ربما شاعر، لا أدري تماماً، وأنا بهيئتي الغريبة عليه تماماً أقف بالقرب من مكتبه الذي يعج بالكتب والكلمات، لأبادره بكلمة واحدة، قائلاً “مرحبا”، هو منهمك بالكتابة، بقلم الحبر السائل، لكم اشتقت لذلك القلم، هو أشبه بالدمع الذي ينسكب على الصفحات البيضاء والملونة، لم يأبه بوجودي، كأنني شبح، أو هلامي، أو تمثال من كريستال، “أنا هنا” أجل أنا في هذا البيت الذي أردت أن أجد فيه وجبة فرح تشبعني لزمن قادم، “أتضور جوعاً، هل لديك ما يبهجني” تمنيت أن يتوقف قليلا، ولكن كأنه يقول: بنات أفكاري تحاصرني لأفرغها على الورق، قد يستغرق ذلك قروناً من الزمن، حتى أنه لم يبتسم مثل تلك المرأة، هو منهمك بالكتابة، أردت أن أسحب الورقة التي امتلأت بالكلمات من أمامه، وأهرب لأقرأها بعيداً عنه، أشرع بالمغامرة، أمد يدي لأسحب الورقة، يمسك ذلك الكاتب بيدي، قبل أن تصل للورقة، وينظر إلي بغضب، كأنه يسألني “ من أنت، ولماذا أنت هنا”، ولكن أتفاجأ أنه قادني لأكون بطلا لإحدى الروايات التي يكتبها، رواية دستوبية مزعجة، مملوءة بالمآسي، كأنني جان فالجان في بؤساء هوغو، أنا جئت هنا باحثاً عن فرح ولو كان عابراً، أريد أن أبتسم، لابد أن أعلن العصيان وأغادر الرواية والمكان، أهرب، أين الباب، أغادر المكتب وأنا ملطخ بحبر أزرق، قد يكون أسود، حبر يتشكل، أتشبث بالجدران، أشكل لوحة، ربما لرامبرانت، ولكن ليست سعيدة غالباً، انتبه لأولئك الرجال والنساء الذين يمارسون الرقص، غالباً على نغمات الموسيقا التي سمعتها وأنا أقف أمام هذا البيت الذي كنت أظنه سعيداً، أستغرب من تفكيري، هل الجماد يشعر بالسعادة، ربما؛ الراقصات والراقصون يحيطون بي، نكوّن جوقة، نغني، بنشاز أولا، ثم يتحسن الوضع، مع ضحك أغلبنا، لنغني أٌغنية الفرح الأخيرة.