سعود الفيصل… هيبةُ الدبلوماسية وسموّ التواضع.

في سجلّ التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية، تطالعنا مواقف لرجالاتٍ استثنائيين نقشوا حضورهم بمداد الحكمة والوقار. ومن هؤلاء الأفذاذ الأمير سعود الفيصل – رحمه الله – وزير الخارجية الأسبق، الذي ظلّ لعقود أيقونة الدبلوماسية السعودية وعنوان رصانتها. ولعلّ القمة الإسلامية التي انعقدت في العاصمة السنغالية داكار عام 2008م، تكشف جانباً من ملامح تلك الشخصية المهيبة، عبر موقفين خالدين يستحقان التدوين والتأمل. الموقف الأول: الكبرياء المتواضع أمام القادة ما إن افتتح الرئيس السنغالي عبد الله واد جلسة القمة، حتى أعلن أن الكلمة الآن لسمو الأمير سعود الفيصل، فليتفضل لألقاء كلمة المملكة العربية السعودية، غير أن الأمير، بملامحه الموقّرة وصوته الواثق، وقف قائلاً: «عفواً سيدي الرئيس، لن أتحدث قبل الملوك والرؤساء». كلمات قليلة لكنها جسّدت أسمى معاني التواضع واحترام التراتبية الدولية. وما إن فرغ من عبارته حتى دوّى تصفيق القاعة، انفجاراً عفوياً من الاحترام والإجلال. لم يكن ذلك تصفيقاً لمجرّد موقف بروتوكولي، بل كان اعترافاً بأن هذا الرجل يقف حيث يضعه خلقه، لا حيث يفرضه المنصب. الموقف الثاني: رفعة الخُلق مع الرئيس الفلسطيني وفي ذات القمة، قال لي الرئيس السنغالي انه يرغب الأجتماع بالأمير سعود الفيصل على انفراد. وبينما دخل سموه القاعة لعقد اللقاء، كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) يغادر غاضباً من الباب الآخر (لانه أراد الاجتماع بفخامة الرئيس السنغالي) غير أن رئيس المراسم السنغالي أبلغه بأن الرئيس في انتظار الأمير سعود الفيصل، وحين انتهى الاجتماع، رويت لسموه تفاصيل ما حدث ، فإذا به – بعظيم خلقه – يرد قائلاً: «لماذا لم تخبرني قبل اجتماعي بالرئيس لكي لا أتقدّم على فخامة الرئيس الفلسطيني». كان همه ألا يسبق زعيماً عربياً إلى مقام التشريف، وألا يُحسب أنه فُضّل عليه في المجلس. تواضع نابع من عمق الانتماء للعروبة، وحرصٌ راسخ على مكانة الآخرين. هذان المشهدان يختصران فلسفة سعود الفيصل في العمل الدبلوماسي: عزّة لا تُفضي إلى تكبر، وتواضع لا ينال من الهيبة. لقد جسّد في حضوره أن المنصب ليس امتيازاً شخصياً، بل تكليف يقتضي احترام الآخر أيّاً كانت مرتبته. لم يكن في قاموسه إقصاء ولا استعلاء، وإنما شموخ يزداد رسوخاً كلما ازداد انحناءً لأقدار الكبار. هكذا كان آل سعود في صميم نهجهم: تواضع مع الكبار، وإنصاف مع الأشقاء، وحرصٌ أن تبقى المملكة رافعةً لوحدة الصف. لقد مضى سعود الفيصل إلى رحمة الله، غير أن القمم والمحافل مازالت تروي قصص حضوره المهيب،ويكفيه أن سموه ترك للأجيال درساً بليغاً بالدبلوماسية ليست كلمات في المحافل والمؤتمرات بل مواقف تنبض بالخلق الرفيع والأعتبار الصادق. * سفير سابق