يوسف الديني في مركز حمد الجاسر الثقافي..
ثلاث نظريات تفسر البون الشاسع بين الثقافة الجادة والثقافة الرقمية السريعة.

أوضح المستشار والباحث الثقافي الأستاذ يوسف الديني في مقدمة محاضرته التي ألقاها في سبتيّة الجاسر أن من حق المثقفين والمؤسسات الثقافية أن تصدر موسوعة كاملة لأعمال علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر رحمه الله، وقال إن الثقافة والمثقف في العالم الرقمي يختلفان اليوم عن العالم الذي ألفناه، تبعاً لاختلاف نظرية التلقي بين الأجيال، وقدّم تعريفًا لمفهوم الثقافة، والتبابين في مفهومها العربي والغربي، موضحًا أن تعريفها بثقافتنا العربية أقرب إلى المعرفة الجادة، كما تحدث عن أنواع المثقف والخوارزميات وأثرها، مقدمًا قراءة موجزة عن واقع الثقافة ومستقبلها بناء على دراسات وصفية وتحليلية. جاء ذلك في محاضرة قدمها في مركز حمد الجاسر الثقافي بعنوان: “مستقبل الثقافة في عالم رقمي” وأدارها الكاتب الصحفي الأستاذ حسين الحربي، ضحى السبت 28 ربيع الأول 1447هـ الموافق 20 أيلول (سبتمبر) 2025م. ثم عرّف الثقافة بأنها منظومة رمزية من اللغة والقيم والفنون والتاريخ، تمنح المجتمعات القدرة على إنتاج المعنى وتنظيم الذاكرة الجمعية، وقال: إن “المثقف الكلاسيكي” قارئ عميق ينطلق من النصوص الكبرى لبناء وعي نقدي ورؤية فكرية؛ وأن “المثقف الموسوعي” جامع بين العلوم والمعارف الإنسانية والطبيعية والفنون، يقدم رؤية كلية متماسكة، ثم تحدث عن أنواع الثقافة الأربعة في العالم الرقمي. وقال إن العصر الرقمي ابتدأ منذ وضع الأطروحات والمحتوى بوسائط غير تقليدية عبر الأوعية الرقمية، ويؤرّخ له البعض من بداية التسعينات مع دخول شبكة الإنترنت. سلطة الخوارزميات: ركز المحاضر على التحولات التي أصابت العصر الرقمي، فأجملها في أربعة اتجاهات؛ أولها “فيض البيانات والمعلومات” موضحًا أنّ حجم المعلومات تضاعف بشكل كبير جدًا، يقدره بعضهم بأكثر من 200 بحث على المسار الواحد في المعرفة، وكذلك “تعددية المعرفة” إذ لا يمكن احتكار المعلومة أو المعرفة، وهذا سبب إيجابي لكنه ألقى بمشكلة المصادر وسبب فوضى في المعلومات، وفوضى في التلقي، ومثّل لمشكلة حقوق الملكية الفكرية؛ وأضاف قائلًا: إنّ من علامات الثقافة في العصر الرقمي تشتت الانتباه” فثقافة الشاشة والمعلومة السريعة والكم الهائل من المعلومات تسبب الارتباك، ولها تبعاتها النفسية على مستوى التلقّي، ودخول التقنيات التسويقية بناء على الطلب والعرض دون الاهتمام بالقيمة والمحتوى، وتحدث عن تراجع معدلات القراءة الجادة على حساب القراءات الاستعراضية والهامشية، ووفقا لآخر إحصائية فإن معدل القراءة ما بين 2003 و2023 تراجع كثيرًا حيث كان في 2003 كان معدل القراءة العالمي 28% وانخفض إلى 14% عام 2023 قياسا بالمؤشر العالمي، بينما لا يوجد لدينا مؤشر ثقافي على المستوى العربي. الفجوة بين الأجيال: وتحدث عن الفجوة بين الأجيال وقدّم تحقيبًا بحسب الأعمار موضِّحا أن المراهقين بين 15 إلى 19 سنة في المعدل العالمي يقرأون أقل من 8 دقائق يوميًا، بينما الذين تجاوزوا الـ 50 سنة هم أكثر بمعدل 45 دقيقة في اليوم، وتحدّث عن النِّسب في القراءة لمختلف الفئات العمرية وفق دراسات عالمية، وتحدّث عن تباين الاهتمامات في القراءة الذي أثّر بدوره على دور النشر، وقال: إن الأقنية والخوارزميات لها دور كبير في الترويج عبر المنصات بناء على العرض على حساب جودة الكتاب. وقال: إنّ المنصّات موجهة للجيل الجديد، ويظهر لهم الروايات الخيالية، بينما الجيل الأقدم يفضّل كتب التنمية، وعبّر عن أسفه لعدم وجود منصة عربية غير تسويقية يمكن أن نثق بها في مراجعة الكتب وإعداد هذه القوائم وهي حاجة ملحة مع المؤشر الثقافي الذي نحتاج إليه. النظريات المفسرة: تحدث عن النظريات التي تقف وراء هذا البون الشاسع بين الثقافة الجادة والثقافة الرقمية السريعة، وأشار إلى وجود ثلاث نظريات منها “اقتصاد الانتباه” نجده في كل حياتنا وهو يستثمر في وقت القارئ وليس في المحتوى؛ وتحدث عن “الثقافة التشاركية” التي تعتمد على توصيات كثيرة من المنصات الرقمية على المستوى العربي والدولي، وتحدث عن “المحتوى السطحي” أو “المحتوى المضلل” الذي وصفه بأنه الأقرب إلى ذائقة الخوارزميات لهذا يحظى برواج كبير لما يتضمن من أساليب الجذب والمبالغة على حساب المصداقية؛ وقال: إن هناك نظرية أيضًا شهيرة في رأس المال الثقافي التي أطلقها العالم الثقافي الفرنسي توضح أن القيمة الثقافية لم تعد مرتبطة بالتراكم الثقافي بل بالتماشي مع السوق وتحدياته. المكتبات: وتساءل عن دور المكتبات في هذا العالم الرقمي بعد الانتقال من التخزين في الرفوف إلى العالم السحابي، حيث أصبح الكتاب الورقي أقل حضورًا، في حين أن الدعوات للتخلي على الكتاب الورقي لا يسندها الواقع ولا الإحصاءات، فما يزال الكتاب الورقي هو الأكثر مبيعًا، وتحدث عن الكتب الصوتية و”البودكاست”، والأطروحات بضرورة محو الأمية الرقمية وما رافقها من مبالغات. مستقبل القراءة: ذكر أن هناك عدة مدارس في استشراف المستقبل ولكن التوجهات العامة منها الإيجابي ومنها المتشائم ويمكن استخلاص بعض النتائج التي تحمل رأيًا متوازنًا بينهما أن الكتاب النخبوي والقراءة الجادة ستظل باقية وأن المثقف النوعي والموسوعي ستظل الحاجة إليه مستمرة كلما اكتشفنا مع الوقت ضحالة الثقافة السريعة وهذه المعلومات التضليلية. وقال: إن المثقف الجاد والتقليدي سيظل موجودًا وإن تراجعت نسبه، وقال: إن هناك توجهًا كبيرًا في إعادة الكتب الموسوعية، وتحدّث عن مخاطر من هيمنة ثقافة الخوارزميات على الذائقة، وأيضًا تهميش الثقافة الجادة، والأمل أن تقوم كثير من المؤسسات وبالأخص الحكومية وشبه الحكومية مثل المكتبات الوطنية في العمل على الارتقاء بالثقافة الرقمية وعدم تبخيسها بل إكسابها الكثير من الجودة، وكذلك الحفاظ على الثقافة الجادة ودعمها. وفي ختام المحاضرة طرح تساؤلات عن أهم اتجاهات الثقافة بحسب الأجيال؛ كيف تغيّرت الثقافة الجادة؟ وما هو موقعها من عالم اليوم؟ وتحدث عن الجيل الصامد الذين عاشوا ما بين 1928 إلى 1945 مع الاعتذار عن التواريخ بالميلادية كون الدراسات أكثرها غربية، فهؤلاء جيل ماقبل اللإنترنت كانت قراءتهم مكثفة من 60 إلى 70 دقيقة يوميًا، وانخفضت مع دخول التقنية، كما ذكر جيل البومبرز وهم من 1946 إلى 1964 إذ انخفض وقت القراءة من 30 إلى 40 دقيقة يوميًا، ولكنهم يفضلون القراءة الجادة حتى على مستوى الصحف، وجيل “الإكس” جيل مخضرم من عام 1965 إلى 1980م أصبح معدل القراءة ما بين 20 إلى 40 دقيقة للفرد يوميًا، وهذا الجيل هجين بين القراءة الرقمية والتقليدية الورقية؛ وأما جيل الألفية من 1986 – 1996م يفضل القراءة الصوتية على غيرها وانخفضت فيه القراءة التقليدية بشكل كبير من 15 -25 دقيقة؛ والجيل الأخير هو جيل “زد” من 1997 - 2012 علاقتهم بالورق مرتبكة بسبب نشأتهم مع التقنية؛ حيث انخفضت قراءتهم لأقل من 10 دقائق يوميًا. وفي الختام فُتح المجال للمداخلات التي أثرت الموضوع والأسئلة التي تفضل بالرد عليها.