في جزيرة موريشيوس..

رحلة استجمام بين منتجَعَين!

-١- منتجع تاماسا: ٢١- ٢٦ يوليو: عثرت على أخي فواز في جزيرة موريشيوس، وهو أحد أبناء أسرتنا الكبيرة التي تفرّق أولادها بعد الطوفان في شتى بقاع الأرض، من أحد أعمامنا الثلاثة، أظنه العم يافث الذي اتجه شرقا، وهو يحمل سحنة هندية، وله أيضا طبيعة الهنود في هدوئهم، وهو لطيف جدا، قليل الكلام، لا ينصرف عن قيادته بكثرة الالتفات، كما يحدث مع بعض السائقين. استقبلنا في المطار بورقة مكتوب عليها (saud Alharbi) فعرفته بهذه العلامة، وانطلقنا على الفور إلى منتجع تاماسا في جنوب الجزيرة، وقد استلمت ابنتي دفة الحديث المترجم؛ فحازت قصب السبق، أما أنا فانشغلت بقصب السكر الممتد في الحقول على امتداد الطريق. وفي الطريق رحت أتأمّل في هذا الموريشيسي الأكثر ميلا إلى الصمت، أتفرّس ملامحه، متسائلا في امتداد مع سلسلة النسب: كم جدًّا نحتاج إلى أن نلتقي على ضفاف جدنا بعيد الطوفان؟ وماذا لو أني تقلّبت مع الساجدين إلى أن يصل بي هذا التقلّب إلى ذات ألواح ودسر، إلى تلك اللحظة التي حطّت فيها السفينة على الجوديّ؟ كل ذلك استدعاه إلى ذاكرتي مناخ وتضاريس الجزيرة الطافحة في وسط المحيط. كيف نبت هؤلاء الناس في هذه الغابة على ظهر الجزيرة؟ هل وصل جدهم بالطريقة نفسها التي وصلها بها حيّ بن يقظان؟ لا أستبعد ذلك؛ فكل سكان الجزر النائية على متون البحار والمحيطات رست بهم  أفكار مغامرين أو تجار  أو حتى قراصنة، فنبتوا وتشجّروا في جزرهم، بالطريقة نفسها التي نبتت بها أشجار جوز الهند وقصب السكر، وكلهم فيما يبدو يحتاجون إلى الاتصال بالعالم الآخر في اليابسة ليتعرّفوا على بقية إخوتهم ممن تفرّقوا في أنحاء اليابسة بعد الطوفان. وصلنا إلى المنتجع قبيل الغروب بنصف ساعة وبالكاد استطعت أن أصلّي الظهر والعصر قصرا وجمعا قبل خروج الوقت، وعلى مدخل المنتجع قبل أن أدلف إلى سكننا بمحاذاة البحر، أعني المحيط الهندي، بحر الزنج باصطلاح الرحالة السعودي الكبير محمد ناصر العبودي لأسباب سأذكرها في مقالة أخرى في غير هذا السياق. كان منتجع تاماسا مرتّبا، ليس في فخامة كونستانس، المنتجع الثاني الذي أقمت فيه خمس ليال أخرى، لكنه كان ألطف بعامليه وبتخطيطه على مساحة الساحل الممتد، حيث يبدو أشبه بلعبة متاهة أنيقة بين الفلل والشاليهات، مع مسابح مبثوثة على مدرجة الطريق وأماكن للألعاب المختلفة، فضلا عن البوفيه المشرف على أحد المسابح. قضينا في تاماسا خمس ليال ماتعة بنظام يومي دقيق، أعرف فيه موعد نومي واستيقاظي، في مناخ شتائي يمتد فيه الليل من السادسة غروبا إلى الخامسة والنصف فجرا. وقد أتيح لي ولرفقتي في الجزء الأول من هذه الرحلة عدد من الأنشطة الترفيهية، كركوب الزلاجة، وقيادة سيارة الرالي التي برعت فيها بحكم خبرتي في قيادة السيارة منذ أول سيارة اقتنيتها وطفت بها في شوارع مكة وأزقّتها، فلم تكن لتعسر عليّ مجرد لعبة في جبل متعرّج لدينا مثله في الكر على طريق الطائف ما يجعل مثلي يزهو أمام زوجته وابنتيه وهو يتجاوز سيارة أو سيارتين من رتل السيارات القصير في هذه اللعبة الترفيهية. غبر أن كل ذلك الزهو تلاشى حين ألحّت ابنتي الصغرى على الانخراط في لعبة الزبلاين وهي لعبة مخيفة لأمثالي لاسيما أنك ترى ابنتك وهي تعبر على حبل ممتد كما لو كان صراطا منصوبا على متن هاوية سحيقة، لكني تجاسرت حتى انتهت اللعبة بسلام وهي فيما بدا لي لاحقا لعبة مأمونة إلى حد كبير، إلا أنها مقلقة لأمثالي ممن نشأؤوا على رعب الحكايات القديمة، فلم يعد يأمنوا أي صدع في جبل أو أي جرّة تثير غبارا أن يعقبه مارد من الجن أو عجوز شمطاء تخرج من الجرة بشروط تعجيزية أين منها معايير وشروط الاعتماد الأكاديمي؟ انطلقنا بعد هذه الأنشطة الترفيهية إلى مزرعة الشاي، وهناك شعرنا أننا نشرب الشاي من منبته، مع أن الذي شربناه منه كان من المعروض في الفتلات التي لا تختلف عن فتلات الليبتون وأخواتها، لكن لزوم الشعور فرض علينا أن نحتال على أنفسنا بهذه الحيلة التخييلية كي نشعر أن مجيئنا لمزرعة الشاي لم بكن عبثا، وأنا لم نأت هنا إلا لنشربه بحقّه، وحقه أن تغمسه في الكوب حتى يحمرّ كدم الغزال. وفي طريق عودتنا إلى المنتجع فقأنا جوزة هند عند أحد الباعة فكان ماؤها على غير ما ظننته من الجوز الذي أحبّ؛ لكني شربته عنادا كي لا أشعر بالخذلان في جزيرة من جزر السندباد البحري، وقد سبقتني مخيلتي إلى هذا العالم الذي لم أرد أن يكسره الواقع، وإنّه لقريب من الحلم برغم ما لقيته من خيبة عصير الجوز على قارعة الطريق! عدنا بعد ذلك إلى منتجعنا في رفقة فواز، أخي بعد الطوفان، وعلى هذه الوتيرة المنتظمة والنمط الأنيق قضينا خمسة أيام بلياليهنّ تطلّ فيها شرفتنا على هدير المحيط الهندي في السحر، وأكاد أجزم أن هديره لم يكن صوت الماء في هذه الساعة المتأخرة، وإنما هو تسبيح كائن حي لربه، قد حانت ساعة قيامه في هدأة الليل  العميق تسبيحا وتحميدا وتكبيرا وتهليلا، وما اصطفاق أمواجه في هذه الظلمات السحيقة سوى ابتهال بلغة لا تفهمها سوى الكائنات في هذا الكون المتراحب على امتداد البصر الغارق في الأفق البعيد.   -٢- منتجع كونستانس ٢٦- ٣١ يوليو: بعد خمسة أيام اعتذر فواز عن المجئ بحجة العمل فطلبنا سائقا آخر، أكثر وداعة منه، ولكنه أقل لباقة في الحديث والقيادة؛ فامتد معه الطريق إلى أن وصلنا إلى منتجع كونستانس في شرق الجزيرة، وعلى امتداد طريقنا كنا نعبر سهولا وحقولا، وتلوح لنا قطع السحاب البيضاء في زرقة شديدة صافية، مما يتيح للنظر فسحة الاستمتاع بالرسوم الكونية في أفق الجزيرة، من سحب وسهول وجبال، في ملامح تعكس تنوّع الخلق وتماثله في آن واحد، فقد رأيت، في هذا الامتداد الطبيعي، توأم جبل حراء، في قامته وشموخه، وبروز قمته التي تحيل على الفور إلى قمة جبل حراء لولا أنّه يميل إلى خضرة ليست لأخيه في سمرته وصلابته، فضلا عن فارق الوحي ورسالة السماء. وصلنا منتجع كونستانس في تمام الساعة الثانية ظهرا تقريبا، وكان أوّل ما فوجئنا به خديعة البوكنق، حيث اشترط علينا الفندق كي نظفر بغرفتين لأربعة أشخاص أن ندفع فرقا يصل إلى حدود الخمسة آلاف بحجة أن الحجز لم يكن لأكثر من شخصين، وهنا ضاعت الحقيقة الغائبة في المسافة بين الحجز التقني والواقع الفندقي، فتدخّلت حينها بانجليزية غاضبة لم أستطع الإمساك منها بغير عرنجية متداخلة من الكر والفر، وأنا من النوع الذي تضيع عربيتي إذا غضبت فضلا عن إنجليزية مدرسية بالكاد تجلب لي قلاسا من الماء. وضحت لهم أني دفعت سعر أربعة أشخاص وأريتهم الحجز الدي لم يكن حاسما، فأصرّوا على إكمال المبلغ فلم أرد تعليق القضية كي لا أخسر المنتجع كله وأعود أدراجي إلى البحث عن سكن غير مضمون، فكانت هذه البداية غير مشجعة لولا أنها كانت مصحوبة بعصير الباشن فروت، الشيء الوحيد الذي يمكن الاعتداد به في استقبال كهذا. ما سوى هذه العثرة الرأسمالية كان كل شيء على ما يرام وفي غاية الفخامة في هذا المنتجع الساحر بدءا من بهوه المنفتح على واحة صغيرة ذات نخلات جميلات، وألوان زاهية من درجات الأزرق والتركوازي الأنيق في أفق بحري في غاية النصاعة واللمعان.  يبدو المنتجع في تصميمه مكونا من فضاءين، فضاء بحري لواجهته النابتة على ساحل البحر الرملي، مع مطاعم وكافيهات ومقاعد للاسترخاء، وفضاء بري يمتد خلف المطاعم، تزينه الأشجار الباسقة ذات الألوان المختلفة، والدروب والمسالك التي تتخلل الحدائق ومراكز التدريب الرياضية المرصوفة بالعشب، وفي الطرف الآخر من الساحل عدد من ملاعب  التنس الأرضي ومراجيح الأطفال، في امتداد بمحاذاة الفلل والمجموعات السكنية المطلّة بشرفاتها على المحيط في مواجهة شروق شمس الصباح من الأفق البعيد وراء الزرقة. مع ذلك لم يكن هذا المنتجع فارقا في الراحة النفسية والتحريض على التأمل، عن المنتجع السابق؛ فلا فرق كبير بين الاثنين سوى كسر النمط الواحد، وطلب التغيير والانتقال من جنوب الجزيرة إلى شرقها. وكان ذلك ما تحقق بالفعل؛ فقد كنت في المنتجع الأخير أكثر ممارسة للرياضة الفردية، ففي هذا المنتجع بدأت تدشين علاقتي مع التنس الأرضي، إضافة إلى عودتي إلى رياضة الطفولة القديمة، أعني ركوب الدراجة الهوائية التي بدت لي في صيغتها الرياضية أكثر إمتاعا منها في صباحات الحي القديم يوم كنّا نجوب بها الشوارع والأزقة لم يكن لنا فيها من غرض سوى الوصول إلى مطعم الصباح للتقاطيع والكبدة. أما النمط الاعتيادي والنظام الدقيق في المراوحة بين الفطور والعشاء فكان متشابها في المنتجعين، وكانت لهما ذات المتعة وذات البهجة الغامرة في رفقة النزلاء الذين عمروا المكان بالأنس والارتياح النفسي الحميم، لاسيما أننا جميعا ننتمي لأجدادنا الثلاثة ممن نجوا بعد الطوفان، وأننا امتداد لأول بحارة نزلوا على الجوديّ ممن لم يدركهم الغرق الكوني العظيم، لكن الكثير من بيننا نسي هذه الحادثة ولا تخطر له على بال، وبعضهم ينكرها أساسا ويعدها من الأساطير، وقلة منّا من لديه عنها برهان راسخ ويستحضرها كلما رست به سفينة أو راحلة على جزيرة نائية في عرض البحر أو نابتة على ظهر المحيط. وعن مصفوفة الأطباق في البوفيه فالطعام في المنتجعين متقارب، مع تفوق نسبي لمنتجع كونستانس صنعه فارق البيض المقلي بين شيف كسول يعدّه في وقت مبكر ويضعه في الصينيات دافئا لا تؤمن عليه البرودة والتعفّن، وشيف نشط يصنعه في اللحظة الحاضرة بمهارة تطمعك في أن تكون طاهيا من الطهاة في مستقبلك القريب، وما سوى ذلك فكل الأطعمة المالحة والحلوة، من أصواف متنوّعة ولذيذة، تتقارب في أطباقها وعصائرها المختلفة.  وكنت بالطبع أميل في مثل هذه المنتجعات إلى الأكل البحري، وأنحاز من بين الأسماك إلى سمك السلمون في شرائحه المدهونة بالدسم اللذيذ، ومن الفواكه لا فاكهة تعلو  عندي على الأناناس، الفاكهة التي ألمح فيها فن التشكيل ورحابة التأويل بين الظاهر والباطن، وأعدّها الفاكهة الأنسب لتمثيل هذه الرحلة لوفرتها في الجزيرة بمحاذاة حقول قصب السكر التي تستخرج منها الجزيرة منتجها الرئيس، وهو السكّر، فتصدّره  إلى العالم الخارجي، هناك في اليابسة البعيدة القابعة وراء البحار.