تُعدّ دارة الملك عبدالعزيز التي تأسست في الرياض بالمملكة العربية السعودية عام 1392هـ/1972م من المراكز العلمية المهمة محليًّا وعربيًّا وعالميًّا, وتختصّ بخدمة تاريخ المملكة العربية السعودية وجغرافيتها وآدابها وتراثها خاصة, والجزيرة العربية والعالم الإسلامي بصورة عامة. وتتوزع خدماتها على ميادين كثيرة؛ منها تشجيع الدارسين والباحثين بما تنشره من مؤلفاتهم ودراساتهم وتحقيقاتهم لكتب التراث, وترجماتهم لكل ما يخدم المعرفة الإنسانية بموروث المملكة العربية السعودية والعالمين العربي والإسلامي, وبما توفره لهم من مصادر المعلومات المتاحة في مكتبتها العامرة, وفي أرشيفها الثريّ الذي حرصت الدارة على جمع كلما فيه نفع للدارسين والباحثين من الوثائق المحليّة, ومن تلك التي صورتها من مختلف الأرشيفات العالمية, فضلًا عما جمعته من فيض غزير من المقابلات والروايات الشفهية من مختلف مناطق المملكة. وتمتد خدمات الدارة للعلم والعلماء إلى الانتقال إلى بيوتهم لمعالجة محتويات مكتباتهم الخاصة مما يعتريها من تلف بسبب العُثُّه وخلافها. وتضطلع الدارة بتمويل ونشر موسوعات علمية كبرى, بعضها رأى النور, وأصبح في متناول أيدي القراء, وبعضها قيد الاعداد والطباعة والنشر. وتُصدر الصادر مجلّة علميّة محكمّة ربع سنوية تُعدّ من المجلات العلمية المهمة المعتمدة من قبل الجامعات لترقية من ينشر فيها من منسوبيها إلى درجتي أستاذ مشارك وأستاذ, وللدارة قدم راسخ في العلاقات الدولية في حقل اختصاصاتها, فهي عضو في بعض الأرشيفات الإقليمية والعربية, ولها زيارات متبادلة واتفاقيات ومشاركات في ندوات ومؤتمرات وورش عمل مع كثير من الدول العربية والإسلامية, وتحتضن الدارة تحت مظلتها الأمانة العامة لمراكز الوثائق والدراسات في دول مجلس التعاون الخليجي, بالإضافة إلى جمعيتين إقليميتين مهمّتين هما: جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية, والجمعية الجغرافية الخليجية, وتشرف على عدد من المراكز البحثية في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية. ويُحسب للدارة اضطلاعها على مدى تاريخها بتنظيم عشرات الندوات والمؤتمرات المحلية والعربية والدولية التي نتج عنها عشرات الإصدارات العلميّة المتخصصة, بعضها صدر في مجلدات ضخمة تزدان بها المكتبات العامة, ولا يستغني عنها, أي دارس في شتى الموضوعات التي تناولتها مما يندرج تحت اختصاصات الدارة, ويتماشى مع أهدافها, ومنها هذه الندوة, موضوع هذا المقال, وعنوانها كما أسلفنا: “المملكة العربية السعودية وفلسطين: بحوث ودراسات” وقد تخيرّت هذه الندوة من بين مئات الندوات التي نظمتها دارة الملك عبدالعزيز على مدى تاريخها, كونها تختص بفلسطين التي هي غالية على قلوبنا, ولكون قضية فلسطين على رأس القضايا التي أولتها المملكة العربية السعودية جلّ اهتمامها منذ عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله وحتى عصر الناس هذا, فضلًا عن أنها من أكبر داعمي فلسطين والفلسطينيين في كل زمان ومكان كما سيأتي بيانه . عُقدت هذه الندوة في المدة من 27 – 29 من شهر المحرم عام 1422هـ/ الموافق 21-23 إبريل عام 2001م برعاية كريمة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حينما كان أميرًا للرياض, ورئيسًا لمجلس إدارة الدارة, وحضرها عدد غير قليل من العلماء العرب بينهم نخبة معتبرة من الفلسطينيين يتقدمهم سفير فلسطين في المملكة العربية السعودية – حينذاك – الأستاذ مصطفى هاشم الشيخ ديب, وسلفه الأستاذ رفيق شاكر النتشة سفير فلسطين السابق في المملكة أيضًا ووزير العمل في السلطة الوطنية الفلسطينية في زمانه, وكنت مشاركًا في هذه الندوة بوصفي رئيسًا لإحدى جلساتها. وفي ظهر يوم الافتتاح توجّه الجميع إلى إمارة الرياض للسلام على سمو راعي الندوة, الأمير (الملك) سلمان بن عبدالعزيز, وتناول طعام الغداء على مائدة سموه, وكعادة الملك سلمان حفظه الله أسهب في الحديث بحرقة وألم عن فلسطين والفلسطينيين, والظلم الواقع عليهم, ومواقف المملكة قلبًا وقالبًا معهم, انطلاقًا من وازع قادتها الديني, ووقوقها مع الحق وضد الباطل, وانتصارًا لإخوتهم في الدين والعروبة إيمانًا من القيادة السعودية بعدالة قضيتهم, ومشروعية مطلبهم, ثم التفت الملك سلمان إلى الأستاذ رفيق النِّتْشَة, وقال له بصوت حازم: “أنت أمضيت أحد عشر سنة سفيرًا للشقيقة فلسطين عندنا هنا في الرياض.. هل حصل في يوم من الأيام إنني قلت لك: امدحنا أو أشكرنا, فأجابه الأستاذ رفيق بقوله: “حاشا لله”, ثم وجه الملك الحديث لجميع المشاركين في الندوة قائلًا: “الليلة سألقي كلمة قصيرة في حفل الافتتاح ولن أطيل, وأنتم لكم كامل الحريّة في الحديث بموضوعيّة, وتجرّد سواء لنا أم علينا”. وأردف (حفظه الله) القول بالعمل حينما قال في كلمته التي افتتح بها الحفل في تلك الأمسية الجميلة: “إن لديّ الكثير مما أقوله عن مواقف المملكة العربية السعودية تجاه قضيّة شعبنا العربي الفلسطيني, لكنني رأيت ألا أتحدّث عن ذلك لأترك الفرصة للمشاركين كي يتحدثوا عن تلك المواقف من خلال بحوثهم ودراساتهم التي يتضمّنها برنامج الندوة الحافل الذي بين أيدينا, والذي يعكس مدى الاستجابة المتميزة التي أبداها الجميع لهذا العمل العلمي”, ودعا الملك (حفظه الله) المشاركين بتحرّي الدّقّة والصراحة والمصداقيّة في بحوثهم بقوله: “وإنني أدعو بهذه المناسبة العلمية الجميع إلى البحث بكل صراحة وتجرّد في مجالات علاقة المملكة العربية بفلسطين لكي تكون دراساتهم ونتائجها موثّقة تحفظ للأجيال العربية جزءً من تاريخها, وتكون نبراسًا للجميع لمواصلة الاهتمام بقضايا العرب والمسلمين”. أما كلمة سفير فلسطين الأستاذ مصطفى هاشم الشيخ ديب فتعدّ وثيقة فيها من الإنصاف, وقول الحق الشي الكثير عن دور المملكة العربية السعودية في دعم القضية الفلسطينية التي يصفها بالقضية المركزية الأولى للمملكة العربية السعودية حينما يقول: “نعم.. لقد سطّر التاريخ, وبأحرف من نور هذه العلاقات منذ عهد المغفور له [بإذن الله] الملك عبدالعزيز الذي تبنى القضية الفلسطينية, وجعلها قضيته المركزية الأولى للمملكة العربية السعودية... نلتقي هنا لنسجّل, وبكل الفخر والاعتزاز, جهود هذا المؤسس العظيم يرحمه الله, وجهود أبنائه من بعده وصولاً إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز يحفظه الله الذين ضربوا أروع الأمثال في دعمهم المتواصل للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والثورة الفلسطينية”. ومن المواقف التي يذكرها الأستاذ أديب في كلمته عن الملك عبدالعزيز دعمه للفلسطينيين, ومناصرته لهم في ثورة البراق عام 1931م, وفي ثورتهم الكبرى عام 1936م, وإيفاد ابنه الملك سعود في زيارة خاصة إلى فلسطين لمساندة الشعب الفلسطيني, ومراسلات الملك عبدالعزيز (رحمه الله) الداعمة للفلسطينيين, ومناصرة قضيتهم إلى كل من ملك إنجلترا جورج الخامس, والرئيس الأمريكي روزفلت في المدة من عام 1938 إلى عام 1945م. وبعد نَكْبَة عام 1948م يقول سعادة السفير: “عَمِلَتْ المملكة العربية السعودية على مد يد العون للشعب الفلسطيني بما يخفّف من معاناته, وشدّ أزره, واحتضنت قسمًا من أبناء هذا الشعب, ووفّرت لهم سبل الإقامة والعيش الكريم والتعليم, ثم استمر الدعم وتواصل مع القضية الفلسطينية, في عهد أبنائه” الذين يذكرهم واحدًا واحدًا, ويسجّل لكل منهم شهادة حق بمواقفة المشرفة, ودعمه السخي للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. ولم يغفل السفير الفلسطيني في كلمته الضافية والشافية دعم الشعب السعودي ماديًّا ومعنويًّا لأشقائه الفلسطينيين معددًا كل مواقفهم الداعمة, وتبرعاتهم السخية بما في ذلك مشروع الملك فيصل رحمه الله: “إدفع ريالًا تنقذ عربيًّا” الذي جاء ردًّا على المشروع الصهيوني الأمريكي: “إدفع دولارًا تقتل عربيًّا” . وختم سعادة السفير كلمته موجهًا الشكر للأمير (الملك) سلمان الذي وصفه بأمير الفلسطينيين في المملكة العربية السعودية قائلًا له: “لك منا المحبة والتقدير والامتنان, وعهد علينا بأن نستقبلكم في القدس الشريف إن شاء الله أهل بيت لا ضيوفًا علينا لنصلي معًا في أقصانا المبارك بعد تحريره إن شاء الله”. (انظر كلمة سعادة السفر كاملة في كتاب: المملكة العربية السعودية: بحوث ودراسات, الرياض: دارة الملك عبدالعزيز, 1427هـ, جـ1, ص ص 23-32). وكان حضور الندوة كبيرًا, وحظي بمشاركات متنوعة من تقارير ووثائق, ودراسات وبحوث علميّة توزعت على خمسة عشر جلسة حتى إن معالي الدكتور فهد بن عبدالله السماري أمين عام الدارة اعتذر في كلمته باضطرار اللجنة العلمية إلى توزيع الجلسات الخمس عشرة على قاعتين في زمن واحد حتى تتاح الفرصة لكل راغب في المشاركة البحثية من المدعويين وهم كُثْر. وقد ظهر حصاد هذه الندوة في كتابه مكون من أربعة مجلدات ضخمة (نشر دارة الملك عبدالعزيز, الرياض: 1427هـ) يُعدّ من أهم الدراسات العلمية الوثائقية التي تناولت المنطلقات السعودية الثابتة للاهتمام بالقضية الفلسطينية, وإبراز المواقف والجهود التي بذلها قادة المملكة العربية السعودية والمجتمع السعودي لخدمة الشعب الفلسطيني, وقضيته العادلة, وأوضحت العطاءات السعودية الحكومية والشعبية التي بُذلت بسخاء للوقوف إلى جانب أبناء فلسطين, وتسليط الأضواء على الموقف السعودي من الهجرة اليهودية, وتقسيم فلسطين, وإحراق المسجد الأقصى. وضمّت الدارة إلى هذه المجلدات الأربعة مجلدًا خامسًا يتضمن كتابين وثائقيين مهمين سبق أن أصدرتهما الدارة مصاحبين لأعمال الندوة, وهما: وثائق المملكة العربية السعودية: القضية الفلسطينية 1348-1373هـ/1929-1953م, والكتاب الثاني: مؤتمر فلسطين العربي البريطاني المنعقد في لندن في 12 ذي الحجة 1357هـ الموافق 7 فبراير عام 1939م: محاضر جلساته وتقارير لجانه مترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية, وهو كتاب مهم يوثق لواحد من أهم المؤتمرات التي عُقدت في لندن على أعلى المستويات عن القضية الفلسطينية, وقد حرصت الدارة مشكورة أن تضعه بين يديّ القارئ العربي بلغته الأم. فشكر الله أفضال الدارة, وأعانها, ووفقها, ووفق العاملين فيها إلى مزيد من التميز والعطاء وخدمة المعرفة البشرية بتقدم كل جديد عن تاريخ المملكة العربية السعودية والبلاد العربية والإسلامية وجغرافيتها وآدابها وتراثها.