سوق الأسـهُم: ليس كُلّ أسـوَد باذنـجــان !!؟
لا يخفى على المُتابعين لسوق الأسهم السعودي أنَّ القيمة الإسمية لأسهم الشركات مَرَّ بعِدَّة مراحل. ففي البداية كانت القيمة الإسمية للسهم مئة ريال ثُمَّ خُفِّضَت إلى خمسين ريال. وفي عام 2006م تَبَنَّـت هيئة السوق المالية بالتنسيق مع وزارة التجارة تعديل القيمة الإسمية للسهم لتكون عشرة ريالات لجميع الشركات المُدرَجة في سوق الأسهم، وذلك بهَدَف توسيع قاعدة السوق وتشجيع دخول المستثمرين في سوق الأسهم. ومع بدء تطبيق النظام الجديد للشركات في يناير 2023م، أجازت المادة (103) مِن النظام للشركة المساهمة: (1) تحديد القيمة الإسمية لأسهُمِها، (2) تقسيم الأسهم إلى أسهم ذات قيمة إسمية أقل أو دمجها بحيث تُمَثِّل أسهُمَاً ذات قيمة إسمية أعلى. وبموجب هذه المادة (103)، قامت بعض الشركات المُدرَجَة في السوق المالية بتخفيض القيمة الإسمية لأسهمها إلى ريال واحد، وشركات أُخرى خَفَّضته إلى خمسين هللة، وشركات أُخرى خَفَّضته إلى عشرة هللات، وشركة واحدة خَفَّضَته إلى 7,5 هلله!! وللأسف، اختفت خاصية القيمة الموَحَّدة للقيمة الإسمية لأسهم الشركات المُدرَجَة في السوق، كما كان معمولاً به قبل صدور النظام الجديد للشركات. فإذا كان الهدف مِن تخفيض القيمة الإسمية لأسهم الشركات هو توسيع قاعدة السوق لدخول مستثمرين جُدُد، فالغريب هُنا كيف تغاضت هيئة السوق المالية عن فائدة توحيد القيمة الإسمية لأسهم الشركات المُدرَجَة برقم مُحَدَّد (ريال مثلاً)، وذلك لتسهيل المُقارنة بين الشركات في كل قطاع مِن قطاعات الشركات المُدرَجَة في السوق، والتي كانت مُطبَّقَة مُنذُ بدء عَمَل السوق المالية السعودي قبل أكثر مِنْ نصف قرن !!! ولتوضيح هذا اللبس الذي يُعانيه المتعاملون في سوق الأسهم السعودي، أُنظُر الجدول المُرفَق والذي يُقارِن بين عِدَّة شركات في نفس القطاع مِن السوق مِن زاوية القيمة الإسمية للسهم والقيمة السوقية للسهم ورأسمال الشركة. فعل سبيل المثال، فإنَّ المقارنة الواقعية بين سعر سهم سليمان الحبيب وفقيه الطبية تستدعي ضَرب سعر سهم فقيه الطبية في عشرة ليُمكِن مقارنته مع سهم سليمان الحبيب بقيمته الإسمية 10 ريالات مُقارَنَةً بريال واحد لسهم فقيه الطبية. وبالتالي سيكون سعر السوق “الحقيقي” لسهم فقيه الطبية 576 ريال وليس 57,6 ريال كما هو في الجدول، وذلك مُقَارَنَةً بسعر سهم سليمان الحبيب 275 ريال. وهكذا في بقية الشركات بالجدول مع مراعاة القيمة الإسمية للسهم. الشـركات لن تُراقِب نفسـها !!؟ بمعنى آخر، وفي موضوع القيمة الإسمية لسهم الشركة وسعر الطرح للإكتتاب، فإنَّ نظام الشركات الجديد تَرَكَ الشركات المساهمة تُدير السوق المالية بما يتلاءم مع رؤيتها وأهدافها، دون النَّظر إلى مصلحة السوق والمتداولين فيه؛ والتي قد لا تكون في صالح العموم. وفي هذا المقام نُذَكِّر وزارة التجارة وهيئة السوق المالية أنَّ فُقَّاَعة العقار في الولايات المتحدة الأمريكية التي إنفَجَرت عام 2008م، وكادت تجُرّ معها الاقتصاد الأمريكي والعالمي، حيث إنهار مؤشِّر سوق داو جونز 51% خلال سنة ونصف، وأفلَسَت عِدِّة بنوك وشركات. تلك الكارثة المالية الاقتصادية كانت بسَـبب تساهُل المؤسسات المالية والبنوك في الإقراض لشراء العقارات مما أدى إلى تَضَخُّم كبير جداً في أسعار العقارات. وسَـبَب تساهُل البنوك والمؤسسات المالية في الإقراض، كما قال آنذاك وزير المالية الأمريكي هنري بولسون Henry Paulson هو إعطاء تلك المؤسسات المالية الحرية الكاملة في تحديد شروط الإقراض وغيرها مِن الإجراءات لتسهيل عَمَلها، مما جعلها تُقرِض أفراداً غير قادرين على الوفاء بقروضهم، أو ما سُمّي آنذك “أزمة الرهن العقاري Subprime Mortgage Crisis”. هذه الحقيقة أكّدها الرئيس بل كلينتون لاحقاً (2010)، حيث ألقى باللوم على وكيل وزارة المالية آنذاك لاري سومرز Larry Summers الذي نصحه بعَدَم تنظيم Regulate سوق المشتقات المالية Derivatives، التي كانت السبب وراء أزمة الرهن العقاري. وللمهتمين بمعرفة المزيد عن الموضوع مُشاهدة الفيلم الوثائقي الجميل Too Big To Fail عن هذه الكارثة الاقتصادية، وكيف تصرَّفَت الحكومة الأمريكية لاحتوائها. بمعنى آخر، فإنَّ عَدَم مُراقبة وتنظيم الحكومة الأمريكية للسوق المالية وإعطاء المؤسسات المالية الحُريّة في تنظيم شؤونها أدى إلى كارثة مالية كادت تَعصِف بالعالَم أجمَع. اليوم تُعطي وزارة التجارة وهيئة السوق المالية الشركات المساهمة الحرية الكاملة في تحديد القيمة الإسمية لأسهُمِها، وكذلك تحديد سعر طَرح أسهمها للإكتتاب في سوق الأسهم السعودي، في حين كانت هذه الأمور فيما مضى تخضَع لتدقيق شديد مِنْ لَدُن الوزارة والهيئة. قد يقول قائل طالما هُناك مستشار مالي ومُتَعَهِد لتغطية الإكتتاب، وتحديد سعر السهم لطرحه للإكتتاب يتم عَبر بناء سجل الأوامر الذي يقوم به المستشار المالي للشركة التي ترغب بطَرح أسهُمها للإكتتاب، فلا خوف مِن ذلك. والإجابة على هذا القول تتَمَثَّل بالسؤال التالي: لماذا لم تَقُم شركات الوكالات الحصرية للسيارات والمشروبات الغازية وغيرها مِن عمالقة الشركات العائلية بطَرح شركاتها للإكتتاب في السوق المالية السعودية !؟ أما عن إعطاء وزارة التجارة وهيئة السوق المالية شركات الاستشارات الَقول الفَصل “بنظام تسليم مفتاح” في تحديد سعر الإكتتاب لسهم الشركة المُراد إدراجها في السوق المالية، فنُذَكِّر الجميع بالشركة الاستشارية ديلويت Deloitte العالمية وفضيحة شركة موبايلي التي تسَبَّبَت بخسائر عظيمة لمساهمي موبايلي، وكذلك الشركة الاستشارية أرثر أندرسون Arthur Andersen التي “طَبَخَت” الأرقام المالية لشركة إنرون العالمية للطاقة Enron وشركة وورلد كوم للاتصالات WorldCom، مما أدى إلى إنهيار وإفلاس كلا الشركتين وكذلك شركة أرثر أندرسون !! ومِن جانبٍ آخر، فإنَّ إعطاء وزارة التجارة وهيئة السوق المالية الشركات حرية تحديد القيمة الإسمية لأسهمها بأقل مِن ريال واحد (أُنظُر الجدول)، يعني موافقتهما على إدراج شركات “أسهم السنتات Penny Stocks”، كما هوَ مُتعَارف عليه في السوق المالية الأمريكية، في سوق مالي مُحتَرم كالسوق الرئيسي (تداول)، في حين لا يتم إدراج مثل هذه الشركات في الأسواق الأمريكية الشهيرة أو حتى إدخالها ضِمن مؤشرات أي سوق مالي (مثل مؤشر داو أو مؤشر نازداك). خُلاصَة القول، أنَّنا “حديثو عهد” في السوق المالية، وما يَصِح في الأسواق المالية في أمريكا وأروبا قد لا يَصِحّ عندنا، فالفارق كبير بين الثقافة المالية لمُجتمعنا وتلك المجتمعات. ولكن إنْ رأت وزارة التجارة وهيئة السوق المالية أنَّ “النظام لا يحمي المُغَفَّلين”، فنُبارك لهما وللشركات الاستشارية ومُتعَهِدي التغطية العدد الكبير مِن الشركات التي تَمَّ إدراجُها في السوق السعودي والأُخرى التي تنتظر في “سِرا” الإدراج. وكل عام هِجري والجميع بخير وسعادة.