رحم الله شيخي وأستاذي الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق رحمة واسعة إذ هو من الشخصيات اللافتة: علماً وخلقا وتواضعاً، وتشرفت بأن أكون أحد تلاميذه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الملك سعود في المدة من 1402ـ1406هـ (1982ـ1986م)، وكانت لأساتذتنا هيبة كبيرة في نفوسنا، ولم نكن نتطلع لبناء علاقة مع أحدهم خارج إطار القاعة الدراسية، بل كنا نتردد في زيارتهم في مكاتبهم، وهذا خطأ كبير في نظري أفقدنا الاستزادة من العلم والوقوف عند بعض الجزئيات التي لم تتضح في أذهاننا أثناء الشرح، وربما كنا قد حصلنا أيضا على بعض مؤلفات أساتذتنا عندما يلحظون جديتنا ورغبتنا في مزيد من العلم. ودارت الأيام، وعيّنت مذيعاً ومعداً للبرامج في إذاعة الرياض في عام 1406هـ، وتخصصت في البرامج الثقافية، ولكنني فوجئت أن أستاذي الكريم ومعه زميله الأثير إلى نفسه أستاذنا الدكتور عبدالعزيز المانع ليسا من محبي الإعلام إطلاقاً، ولديهما الاستعداد للجلوس معك وإفادتك وإنارتك دون ضجيج إعلامي، وهذا موقف له تفسيره إذ يريان أن الإعلام والاقتراب منه قد يجرك إلى الحديث في كل موضوع، سواء كان من اهتمامك أو بعيد عنك، ومثل هذا التوجه لا يحبذه الإعلاميون بلا شك؛ لأنهم أمام برامج وصفحات لا بد أن تملأ، والأساتذة الجامعيون من أهم المرتكزات لإثرائها. وهذه الصرامة في شخصية الدكتور الهدلق، وهذا التواضع والزهد أفقدنا حضور عالم متميز في مجال اللغة العربية وآدابها في وسائل الإعلام، بل واكتشفت فيما بعد أنه مقل إلى درجة ملحوظة في المشاركة في المؤتمرات والندوات والملتقيات، وتكاد مشاركاته حسب علمي تعدّ على الأصابع، ولكنه إذا شارك أعد ورقة معمّقة تليق باسمه وعلمه وسمعته، ومن أهم البحوث التي أعدها وشارك بها في ملتقيات داخل المملكة البحوث التالية: اهتمام الشيخ حمد الجاسر بالشعر والشعراء كما يبدو من كتابه «مع الشعراء»(عام1424هـ في ندوة الشيخ حمد الجاسر وجهوده العلمية بجامعة الملك سعود)، وأبو عبدالرحمن ابن عقيل أديباً (عام 1425هـ بالنادي الأدبي بالرياض)، والحضور التراثي في الخطاب النقدي لدى الدكتور عبدالله الغذّامي: الخطيئة والتكفير أنموذجاً (عام1429هـ ضمن بحوث الدورة الثانية من ملتقى النقد الأدبي في المملكة)، والبعد الثقافي في حكاية الصبي الذي رأى النوم لعدي الحربش (عام1429هـ في ملتقى القصة بنادي القصيم الأدبي)، والنقد الأدبي في عصر صدر الإسلام (عام1435هـ في ندوة شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة)، وغيرها، ولكنها تظل قليلة جداً بالقياس إلى مكانته العلمية. وعندما عيّن عضواً في مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض في المدة من (1427ـ1431هـ) اضطر إلى الخروج من نطاق الجامعة الضيّق إلى المشهد الثقافي الواسع، ونتج عن ذلك بعض المشاركات في الملتقيات، ومنها بعض البحوث السابقة، ومشاركته في بعض اللجان التي فرضها وجوده في النادي الأدبي بالرياض، ومنها عضويته في اللجنة التحضيرية لملتقى النقد الأدبي في المملكة العربية السعودية (الدورة الثانية) عام 1429هـ/2008م، وكنت محظوظاً في أكون مع شيخي عضواً في هذه اللجنة. وتعبيراً عن الحب الصادق لأستاذي الكريم الدكتور محمد الهدلق اخترت أن أكتب عنه مدخلاً في قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، ونشر المدخل في القاموس عام 1435هـ/2014م، ولكنها كانت سيرة مقتضبة موجزة بناء على رغبته إذ لم يزودني إلا بمعلومات مركزة تعكس شخصيته المتواضعة. وتقديراً لجهوده في تأسيس مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية وكونه أول رئيس لمجلس الأمناء، طرحت على زملائي في مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض عندما انتهت مدته في المركز أن نكرّمه في احتفال اليوم العالمي للغة العربية عام1436هـ/2014م، ومن المواقف المؤثرة في هذا الحفل: حضور الدكتور عبدالله بن صالح العثيمين رحمه الله في وضع صحي حرج ليشارك بمداخلة عن الدكتور الهدلق، ومما قال: لن أنسى، ولا يمكن أن أنسى عندما كنا معاً في بريطانيا للدراسات العليا فرحة الدكتور محمد الهدلق بحصولي على الدكتوراه وإصراره على إعداد وليمة غداء بحضور عدد من الزملاء بهده المناسبة؛ تعبيراً عن حبه وتقديره لي، وهذه الوليمة ما يزال أثرها باقيا في ذهني وفي نفسي ما حييت. وتدريجياً بدأ الدكتور محمد الهدلق يقترب من مجتمعه ومحبيه أكثر حين أنشأ حساباً له في تويتر يفيض من خلاله على متابعيه بتغريدات مفيدة ونافعة ويعيد تدوير ما يستحسن من تغريدات الجادين من الفاعلين في تويتر، وجاءت البشرى في عام (1437هـ/2016م) بصدور كتاب له عن طريق كرسي الدكتور عبدالعزيز المانع، وهو كتاب جمع فيه تحقيقاته لبعض الكتب التراثية، وعنوانه «رسائل تراثية في النقد والبلاغة»، وما كان له أن يصدر لولا إلحاح صديقه المقرّب أستاذنا الدكتور المانع؛ ثم مارس عليه ضغوطاً أخرى، واستطاع أن يظفر كرسي المانع بكتب أخرى له، وهي: «في الثقافة النقدية» (1438هـ/2017م)، و»قراءات في البيان العربي (1438هـ/2017م)، و»سجالات حول المعنى» (1439هـ/2018م). وختاماً: رحم الله شيخنا وأستاذنا الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.