د.عائشة المانع في «حد الذاكرة» ..

جهاد امرأة في زمن البدايات الصعبة.

حد الذاكرة هو الكتاب الذي ضم سيرة الدكتورة عائشة المانع، والصادر مؤخرا عن دار جداول للنشر. أستطيع القول إنها سيرة فاتنة، رغم أن الكاتبة كانت لغتها الأولى تعليميا هي اللغة الانجليزية، بل لاقت بعض العنت حتى تأخذ دروسا في اللغة العربية، إلا أن هذه السيرة رفيعة المستوى لغويا وفنيا. والدها غادر الزبير الى الهند للدراسة وممارسة التجارة، حاز على دبلوم يؤهله لدراسة الطب ودرس اللغة الانجليزية بعمق جعله يؤسس قسم الترجمة في ديوان الملك عبد العزيز، ثم يؤسس قسم الترجمة لدى شركة ارامكو، وانتقل بعدها الى العمل الحر. عندما بلغت عائشة الثامنة من العمر لم يكن في البلاد تدريس رسمي، حفظت القرآن الكريم على الشيخة وعلى والديها، لكن طموح والدها جعله يسافر بها الى مصر في غفلة من أمها، وفي الطائرة قال لها: إنه لا يريد لها ان تكون مثل أمها وجدتها، بل يريد لها أن تتعلم وأن تعلم بنات بلدها، طوقت هذه الكلمات عنق عائشة، وأصبح تذليل صعوبات التعلم والمشاركة المجتمعية أمام بنات وطنها هدف حياتها الذي ألغى أية أهداف أخرى، وكذلك وهبتها هذه الوصية جرأة نادرة وأكسبتها روح المبادرة. في الإسكندرية درست في الكلية الإنجليزية التي أصبحت فيما بعد كلية النصر للبنات، وهي كلية للبنات كانت توأما لكلية فيكتوريا للأبناء، كلية متكاملة للدراسة بالإنجليزية ولرعاية المهارات، فكانت تتعلم الرياضة البدنية بما فيها السباحة وكذلك رقص الباليه، وأذكت لدى البنات روح العمل التطوعي، فكن يدخرن من مصروفهن ما يتبرعن به للمحتاجات، وكانت عائشة تصرف بعض وقتها للقراءة للفتاة شمس وللشاب محمد، وكلاهما كان أعمى، كما أصبحت تعقد على سطح بيتها دروسا لأترابها من الفتيات في الخبر في الإجازات الصيفية. عام ١٩٥٧ توترت العلاقات بين السعودية ومصر، فعاد الطلاب إلى السعودية، تعليم البنات بدأ بعد عامين من عودة عائشة إلى الخبر، وبادر رجال الأعمال للتبرع بمبان لتصبح مدارس استعجالا للتعلم، وبتوصية من والدها أصبحت عائشة مديرة لأول مدرسة ابتدائية للبنات في الخبر، كان كثير من الطالبات يسبقنها عمرا، وكثير من المدرسات أكثر تعلما منها، لكنها وبمساعدة والدها وإشرافه نجحت في أداء مهمتها، من الطرائف أنها لاحظت وجود القمل في رؤوس بعض الطالبات، أشارت عليها إحدى المدرسات بدهن شعورهن بالكاز للقضاء عليه، وما أن بدأت حتى تدارك والدها الأمر، وعادت إلى الممارسة الصحيحة للعلاج. ولدعم بعض الطالبات وبطريقة لا تحرجهن تبرع ابوها بقماش يوزع مجانا على ٣٥٠ طالبة ليكون الزي موحدا، وقد راقت الفكرة للأهالي، خاصة وأن أغلبهن محدودات الدخل، الغريب أن رئاسة تعليم البنات رفضت الفكرة لأن فيها تشبهٌ بالشيوعية، ولكن مع الوقت أصبحت الألوان التي اختارها المانع الأب الألوان الرسمية لزي الطالبات. بعد سنة من هذه التجربة في إدارة المدرسة ذهبت مع إخوتها لإكمال التعليم بلبنان، التحق إخوتها بمدارس المقاصد الإسلامية، لكنها اضطرت إلى الدراسة في المدرسة الانجيلية التي لم تكن جذابة كمدرسة الاسكندرية، كان عليها مثلما في الإسكندرية أن تحضر الدرس الكنسي الصباحي، وكان والدها يصحح لها أولا بأول المعلومات التي تخالف الإسلام. لم يناسبها السكن فذهبت إلى الملحق الثقافي ليتوسط لها أن تسكن في السكن الداخلي للجامعة الأمريكية وكان لها ذلك. انتقلت لدراسة علم الاجتماع في جامعة بيروت الأمريكية، الأمر الذي أزعج والدها الذي يريدها أن تدرس الطب، وقاطعها فترة، ولكنها أقنعته بأن دراستها هي التي ستساعدها في الارتقاء ببنات بلدها. في لبنان تواصلت مع كل التيارات الفكرية والحزبية، ولم تنضم الى أي حزب حسب وصية والدها، وبادرت إلى الدعوة لإنشاء صندوق للطلاب السعوديين لمساعدة من يحتاج منهم، جمعت رأس مال الصندوق من الطلاب ووجهاء السعودية ممن يزور لبنان، كانت الأميرة الجوهرة بنت سعود الكبير تقيم مجلسا أسبوعيا يحضره المثقفون والطلاب، فدعمت الصندوق، وكذلك زارت زوجة الملك خالد لبنان للاستشفاء فدعمت الصندوق أيضا، جمعت ما يساوي ثمانية آلاف دولار وسلمتها للملحق الثقافي، عُقدت انتخابات لاختيار مجلس إدارته، و كان متوقعا أن تفوز فيها، إلا أن كل الفائزين كانوا من حزب البعث، مما دل على التحايل، ألغت السفارة نتائج الانتخابات، وعينت مجلس إدارة، وتطورت نشاطات الصندوق الى عقد أمسيات ثقافية وفنية سعودية، وتنظيم رحلات في العطلات وما إلى ذلك. وحتى تحصل على بعثة حكومية زارت الوزير حسن بن عبدالله آل الشيخ عندما جاء إلى لبنان، وطلبت أن تبتعث إلى أمريكا أسوة ببعض زميلاتها اللواتي حصلن على استثناء، أيامها كان الابتعاث للرجال فقط، وحقق الوزير لها ما أرادت، وهكذا غادرت إلى أمريكا كمحولة من الجامعة الأمريكية في بيروت، وهكذا أنهت البكالوريوس في وقت قصير وانتقلت إلى الماجستير، والدها كان معترضا على ذلك، وقال لها إن الأمريكان لن يعلموك شيئا، فيجب أن تعلمي نفسك، انقطعت البعثة عنها في الماجستير نظرا لأن البعثة كانت من أجل البكالوريوس، وجدت أباها مرهقا بمصاريف خمسة ابناء في الجامعة، فعملت مرشدة للسكن الطلابي ومنظِمة في مطعم الكلية، وكانت تمسح الطاولات، فيسخر منها زملاؤها السعوديون قائلين: بنت المانع تمسح طاولات! لم تكترث، أنهت رسالتها للماجستير وعادت للوطن، كانت رسالة الماجستير عن العوامل المؤثرة في تعليم المرأة وعملها في السعودية، وقد وجدت أن العوامل البيئية هي المؤثر الأعلى لا العوامل الدينية. تقدمت للحصول على وظيفة لدى خمس جهات، ثلاث جهات تعليمية منها رفضت توظيفها لأن خلفيتها كنسية، تقدمت لوظائف في منظمات الأمم المتحدة فعرضت اليونسكو عليها وظيفة، أغضب هذا أباها، إذ كان يريد أن تساعد بنات بلدها، أخذها وذهبا إلى وزير الشؤون الاجتماعية الذي عرض عليها وظيفة مديرة المركز الاجتماعي النسوي في المنطقة الشرقية، وعندما تهيأت للوظيفة أصدرت الخدمة المدنية قرارا بتعيينها مديرة مدرسة، ومن هنا كان عليها أن تعمل ثلاثة أشهر في المدرسة قبل أن ننتقل للشؤون الاجتماعية ، في المدرسة حضر إليها ممثل هيئة الأمر بالمعروف، لينفذ أمرا بمعاقبة الفتيات، لأن الفتيات حضرن إلى المدرسة بلا عباءات تقليدا للمديرة، تفاهمت عائشة مع ممثل الهيئة ليترك لها معالجة الموقف، أقنعت الطالبات بالالتزام بالعباءة حتى يكملن تعليمهن، ثم يتصرفن حسب قناعاتهن. وهكذا حُلت المسألة، الواضح أنه عندما بدأت مؤسسات التعليم في الوطن العربي ظن كثيرون أن الحجاب عائق للتعلم والعمل، ولكن وبفعل التوسع في التعليم في السعودية ودخول الفتاة كافة مجالات العمل ثبت أن الحجاب ليس عائقا ابدا، وأن كل المسألة ما كانت تستحق كل ما أثير حولها. في مكتب الشؤون الاجتماعية وجدت تسيبا كبيرا، مركز المسنين ليس فيه أحد ويتم الاستيلاء على ميزانيته من بعض الموظفين، عند البعض المال العام لا حرمة له، إنشاء الجمعيات الخيرية ممكن، ولكن تكتنفه صعوبات، زارت مركز الأيتام فلم تجد مكيفات، المسؤولة تعتقد أن هؤلاء فقراء ولا يجوز أن نفسدهم بأجواء المكيفات، والموظفات غير ملتزمات بالدوام، بل إن العاملة في مكتبها ترفض تنظيف دورة المياه، ضربت عائشة مثلا بأن قامت بتنظيف دورة المياه بنفسها، العمل لا يعيب أحدا. عندما أرادت أن تعطي دورات تأهيلية للعاملات في الجمعيات الخيرية، أوقفت من الوزارة لأنهم رأوا أن هذا خارج اختصاصها، وعندما رُشحت لتكون ضمن مجموعة استشارية تجهز أبحاثا لصالح الوزارة بغرض التطوير، رُفض ترشيحها لأنها غير حاصلة على الدكتوراه، نالها كثير من الإحباط، فرتبت للعودة إلى أمريكا للحصول على الدكتوراه، كان بحثها عن تأثير خطط التنمية على المرأة في السعودية، وفي بحثها زارت مناطق متعددة كالربع الخالي، حيث السفر مغامرة والحياة صعبة لسكان المدن وأكثر صعوبة للمرأة، ولكن الحماسة والشغف سهلا عليها كل ذلك وأنجزته على الوجه المطلوب. ثم عادت إلى مركز الشؤون الاجتماعية لتعمل فترة قصيرة ثم تستقيل. أسست ومجموعة من الزميلات مركزا للدراسات استمر عشر سنوات، كان عليها أن تناضل لتجاوز معوقات كثيرة، مثل حكاية الكفيل الغارم والوكيل الشرعي، وكانت تحصل على ترخيص مؤقت ما إن ينتهي خلال شهرين حتى يأتي رجال الهيئة لتنفيذ أوامر الإغلاق، وقد حاولت أن تجتاز هذه العقبات بالقوانين وبالتعاون مع محامين معروفين، ورغم هذا العناء استطاع المركز أن ينجز دورات لتدريب الفتيات على الكومبيوتر الذي كان في منتصف الثمانينيات شيئا جديدا، وتعاون المركز مع جامعة الملك سعود لتجهيز مركز للكومبيوتر فيها وتدريب العاملات. كما وأنجزت أبحاثا أحيلت اليها من مراكز أبحاث رجالية. توقف المركز عن العمل بعد عشر سنوات. فانتقلت للعمل في الشركة العائلية التي تدير ميراث أبيها والتي تضم مستشفيات مهمة، وقد ساعدت في تطويرها لتصبح مؤهلة للتعليم في مجال الطب، بدءا من معاهد للممرضات حتى كلية طب متكاملة، لتحقق حلم أبيها في دراسة الطب، واستكمالا للمشروع أرادت أن تجعل كل ما تملك وقفا تعليميا ينفق على الكلية وعلى الطلاب، وهذا هو المعمول به في الدول الغربية، الجامعات والمعاهد التي درست بها كلها قائمة على الوقف الخيري، ولكنها اضطرت إلى العمل سنوات وتوظيف محامين والتواصل مع وزراء حتى يتم الترخيص فلم يسبق ذلك حصول أوقاف على التعليم وإنما أوقاف في مجالات أخرى، كانت قد تدربت على إدارة الوقف يوم أنشأت وقفا لتعليم التمريض في عكار لبنان. البيروقراطية عصية على الأفكار الجديدة، ولكنها تفتح أبوابها أخيرا لفئة قليلة من البشر مثل عائشة، هؤلاء اعتدن على التحديات. عملت على استقطاب الداعمين من المؤثرين في المجتمع وخاصة من كبار رجال الدولة. تعلق على التمييز ضد المرأة فتقول إن المجتمع الأمريكي يمارس تمييزا ضد المرأة رغم ظاهره الذي يوهم بالعدالة الاجتماعية، في لبنان ليس هناك تمييز جندري، ولكن هناك تمييز طائفي، في ارامكو كان هناك تمييز وظيفي وتمييز جندري ضد المرأة، كان لها أيضا تجربة طريفة مع قيادة السيارات يوم كانت ممنوعة. كتاب جميل يستمتع به كل القراء ولكن القياديين في كل مكان يحتاجون لمصاحبته طويلا. فهو مجمع فوائد. شكرا عائشة المانع.