وداعا « عثمان أبو الليرات» ..

ريادة الصورة في التاريخ المحلي .

ودّعت الأوساط الثقافية والفوتوغرافية في المملكة في الأيام القليلة السابقة المصور الرائد عثمان أبو الليرات، الذي وافته المنية بعد مسيرة طويلة امتدت لعقود، شكل خلالها علامة فارقة في تاريخ التصوير المحلي، وكان مثالًا يُحتذى به في الإخلاص والتفاني. لقد كان الراحل قامة وطنية وشخصية فريدة في المشهد الثقافي السعودي، تاركًا إرثًا بصريًا غنيًا يشكّل اليوم ذاكرة جماعية نادرة، ويعكس تفاصيل حياة مجتمعه في أزمنة مختلفة. …. أبو الليرات من أوائل الذين أدركوا قيمة الصورة في زمن لم يكن الاهتمام بها قد ترسخ بعد، وفي وقت كان المصورون المحليون قلة محدودة. حمل كاميرته منذ بواكير شبابه، وعمل بهدوء وصبر امتد لعشرات السنين، مؤمنًا بأن التصوير ليس مجرد هواية أو ترف، بل وثيقة تحفظ ملامح المكان والإنسان وتروي تاريخًا لم يكن مدونًا بطريقة أخرى. وقد اختار بعين ثاقبة الأماكن والأحياء التي كان يعلم أن التطوير سيطالها مستقبلًا، مثل الأحياء القديمة في القطيف وأسواقها الشعبية، والمباني التراثية التي اندثرت لاحقًا، فجاءت صوره شاهدة على التغيرات العمرانية والاجتماعية، ومؤرخة لحياة الناس وتفاصيل يومياتهم قبل أن تتغير معالمها. ومن أبرز ما ميّز أعماله الجرأة في اختيار الزوايا، خصوصًا الزوايا العلوية التي التقطها من أسطح المباني، مانحًا المشاهد منظورًا بانوراميًا فريدًا يضيء تفاصيل المكان ويبرز جمالياته الخفية، مؤكدًا على وعيه المبكر بأهمية التوثيق من أكثر من بعد. كما أنه لم يتوقف عند التقاط الصور فقط، بل تعامل مع أرشيفه البصري على أنه ملك للجميع، فنشر صوره بسخاء وروح نبل، معتبرًا أنها مواد خام يستفيد منها الباحثون والكتّاب والمهتمون بالتاريخ المحلي، ما جعله قدوة في العطاء. وعرف الراحل بأخلاقه العالية وتواضعه الكبير، فتعامله مع الأجيال الشابة من المصورين كان بمثابة الأب والملهم، ينقل خبرته وروحه الإنسانية ويغرس فيهم حب الصورة وروح المسؤولية تجاه المكان والإنسان. وبرحيله، يخسر المشهد الثقافي الوطني قامة بارزة من رواد التوثيق البصري، غير أن إرثه سيظل حاضرًا، وملهمًا للأجيال القادمة، ويستدعي من المؤسسات الثقافية والفنية العمل على حفظ منجزه وتخليد ذكراه، والاعتراف بدوره في تأسيس وعي بصري سعودي مبكر ، ليبقى اسمه منارة للتاريخ البصري، والتوثيق، والثقافة الوطنية، وذِكرَهُ مثالًا يُحتذى به لكل من يسعى للحفاظ على التراث البصري وصناعة ذاكرة المجتمع للأجيال القادمة. *مصور سعودي