أشواق البحري

حين جدّ العزم على السفر وهبت الريح المواتية للإبحار. وضع ناصر البحري أشياءه في حقيبته السعفية وركن أشواقه في ناحية من قلبه الشاب، ورفع صوته مشاركاً البحارة الذين رفعوا أصواتهم بأهازيج مغناة، وتخاطفت أذرعهم القوية حبال الأشرعة ليرفعوها عالياً على صواري السفينة المبحرة. *** استلقى الغواصون على سطح السفينة الماخرة عباب الماء المالح متجهة بإصرار إلى المواقع المشهورة بكثرة المحار في الجزر الغربية. كانت النسمات الرقيقة تداعب الأشرعة الشامخة فوق الصواري والأجساد التي أنهكها الشوق المبكر إلى الأحباب الذين فارقوهم قبل ساعات. *** أغمض الغوّاص الشاعر جفنيه بإرادته ليحفظ تحتهما صور محبوبته ومشاهد تمشيطها وتزيينها لشعرها الطويل، تنهّد وراح يتمتم بأبيات شعر خرجت للتو من تنور قلبه معبّراً عن أشواقه التي بدأت تهبّ عاصفة منذ بداية الرحلة. *** استرخى أحد البحارة الشباب تبدو على قدميه وكفيه آثار لحنّاء وضعته قبل ساعات أنامل رقيقة لحسناء محبة استرخى وراح يتأمل السماء ويسترجع إحساس راوده وقت تحنيته. إحساس بالنشوة سرى من أسفل قدميه مرتفعاً إلى قلبه. رائحة الطيب على رأس محبوبته بعثت في تلك اللحظة حية تعبر أنفه لتصل إلى مخه بكل إصرار عاوده هذا الشعور كأن من يهوى ماثلة أمامه تحنيه وتنثر روائح طيبها عليه. *** بعد عدة ليال من الإبحار غرباً اقتربت السفينة (فتح الخير) من (مغاصة) مشهورة بوفرة محارها. أمر ربانها بإنزال مراسيها وأشرعتها استعداداً لبدء جولة من العمل الشاق في هذا الموقع، والأمل يراود الجميع برزق وفير. *** أخذ الغواصون فترة راحة قصيرة ثم بدأوا في فلق محصول يوم عمل شاق امتد من شروق الشمس إلى قبل الظهر بقليل. وضع كل غواص أمامه نصيبه من الأصداف المغلقة بأحجامها المختلفة حضر مفلقته الحديدية المعقوفة وقطعة القماش الحمراء التي يجمع فيها حبات اللؤلؤ المستخرج من بين لحم البحر والأحشاء داخل المحارة. كان الغواص يرمي الأحشاء إلى البحر لتأكلها النوارس الجائعة أما اللحم الطري فيجمعه داخل سلة مصنوعة من السعف ليستفاد منه لاحقاً تحت المظلة القماشية التي غطت جزءاً من سطح السفينة. جلس (ناصر البحري) متربعاً أخذ صدفة وغرز فيها مفلقته انفتح انغلاق المحارة عن كتلة من اللحم الطري في وسطها لؤلؤة تناولها بطرف مفلقته تأملها قليلاً ثم وضعها على قطعة القماش. بدا سطح الصدفة الداخلي لماعاً بعد تنظيفه تراءى له أنه يرى وجه محبوبته على صفحته توقفت يداه عن العمل للحظة بدا وجه محبوبته كدرة ثمينة... أغمض عينيه على هذا الخاطر الجميل. كان حلم يقظة تبدد بصيحة نورس بحري. مضت أشهر الغوص وحان موعد العودة إلى الديار. رست سفن الغوص الكبيرة بعيداً عن مياه الميناء القريبة القاع وتنفيذاً لأوامر سلطاته نزل البحارة والغواصون والربابنة بمراكب صغيرة خفيفة الحركة تناسب هذا البحر الداخلي هبطوا إلى أرض المدينة الساحلية في البر الغربي ليتسوقوا من محالها حاجاتهم من البضائع والهدايا ظلوا يتجولون بين المتاجر حتى أنهكهم التعب فاختاروا مقهى يطل على الطريق العام ليشربوا فيه شراباً بارداً يريح أجسادهم المتعبة وليمتعوا أعينهم بحركة المتسوقين والمتسوقات وليتذكروا جميلات جزيرتهم في الساحل الشرقي عندما يتنقلن في الطرقات لزيارة بعضهن وتتداعى صورهن الجميلة وروائح أطيابهن التي يحملها النسيم فتهيج الذكرى أشواقهم في الصدور ثم تخرج من أفواههم زفرات حارة مسموعة عند من يجلس قريباً منهم. *** على سطح السفينة (فتح الخير) المبحرة شرقاً في رحلة العودة إلى الديار. رفع أحد البحارة صوته بأذان الفجر، أبعد البحارة والغواصون والربان أنامل الفجر من فوق أجفانهم وأخذوا يستعدون لأداء الصلاة جماعة. بعد انتهاء الصلاة تحرك الموكلون بالطعام لأداء مهامهم المعتادة، بعد أقل من ساعة كان الإفطار جاهزاً...تناول الجميع طعامهم بالتناوب... بينما كانت السفينة تشق الأمواج الهادئة في مجراها الذي سيوصلها، بعون الله، إلى سواحل (أم النوارس) القريبة استمرت السفينة في رحلة يسرها الله وإبحار سلس بلا مشقة. صوت الماء تحتها يبعث الطمأنينة في قلوب الرجال على سطحها الأشواق خيوط قوية تمتد من صدورهم تجذبهم إلى البر البعيد الذي بدا لهم كمسحة من لون رمادي امتد إلى مساحة واسعة من خط الأفق حتى إذا ما أشرقت الشمس بنور ربها واقتربت اليابسة وأصبحت واضحة المعالم وتلون الماء بالأخضر الفستقي أمر الربان بحارته بإنزال المراسي. *** نزل البحارة والغاصة إلى المراكب الصغيرة، أنزلوا أغراضهم وراحوا يجدفون بحماس وأشواقهم تمنحهم طاقة تحرك زنودهم المفتولة العضلات والأهازيج تمدهم بقوة مضاعفة للعمل والأمل. إيقاع أهازيجهم يتواءم مع إيقاع ضربات مجاديفهم: «قريب ... قريب نلاقي الحبيب قريب... قريب أبو خد نادي قريب.. قريب بعطر الفل والكادي قريب... قريب بعون الله قريب...قريب حبيب القلب نوصل له قريب... قريب»