إيقاع المأساة الفلسطينية في الشعر العربي السعودي..
مواكبة للمنعطفات واستجابة للمعطيات واتساق مع الجماليات في تقاليدها الفنية القديمة والحديثة.
مرّت القضية الفلسطينية بمراحل متعددة منذ نكبة 1948 م، وفي كل منعطف من منعطفاتها كان الشعر العربي بعامة والسعودي بخاصة حاضراً، ففي جانب منه اتخذ طابعا مناسباتياً تقريرياً وجدانياً متوهّجا بالعواطف الجيّاشة، وبدا متشائماً حزيناً حيناً، ومتجمساً متفائلاً حيناً آخر، تقليديّا في تناظرية الشكل، صاخب الإيقاع لدى الرعيل الأول، هامساً متأمّلاً لدى جيل الوسط؛ متفلسفا مستلهماً تقنيات حداثية سرديّ النهج درامي الروح متسقاً مع تطور القصيدة العربية في منحاها التقريري ثم التعبيري ثم التشكيلي، وليس مما يسمح به المقام أن أفصل القول أو حتى أوجزه إيجازا مقنعاً، وحسبي أن ألقي نظرة أفقية عامة في هذه العجالة معتكئاً في إيراد الشواهد والنماذج على بعض الدراسات؛ وتقتضي الأمانة أن أشير إلى دراستين رئيستين: فلسطين في شعر المملكة العربية السعودية للدكتور محمد بن حسن الزير، ودراسة الدكتور صالح بن عبد العزيز المحمود (البعد السياسي للواقع العربي - الشعر السعودي وقضية فلسطين نموذجاً). وليس ثمة ما يدعو إلى الحديث عن صدى الوقائع الكبرى في الشعر ومذخوره الوجداني والفكري في الوعي العربي بعامة والسعودي بخاصة، فقد ظلّت فلسطين منذ عقود عديدة محوراً رئيساً في الشعر في مختلف المحطات التي مرت بها هذه القضية بأبعادها المختلفة: الوطنية والقومية والسياسية والاجتماعية والإنسانية. وقد احتلت غزّة مكانة مهمة خصوصاً بعد أن تحوّلت إلى بؤرة مشتعلة بعد انسحاب المستوطنات من داخلها في الخامس عشر من أغسطس عام 2005 وما تلا ذلك من أحداث. وبعيدا عن الجدل حول الوقائع التي حدثت بعد ذلك فإن مرحلة جديدة من الصراع مع الكيان المحتل قد بدأت، ما أدى إلى تحوّل نوعي في مسار القضية الفلسطينيّة التي كان لها تراثها ونماذجها الكبرى في الشعر العربي من خلال قصائد أصبحت ذات قيمة أدبية وتاريخيّة متميّزة، منها قصيدة الشاعر عبد الرحيم محمود (الشهيد) وقصيدة على محمود طه ( فلسطين: أخي جاوز الظالمون المدى) وقصيدة (فلسطين صبراً) لأحمد محرم، و(أريد بندقية) لنزار قباني، وقصيدة (يا قدس) لأحمد مطر، و(على هذه الأرض) لمحمود درويش وغيرها الكثير. أما في الشعر العربي السعودي فإن مواكبة الشعر للقضيّة الفلسطينيّة في مختلف أطوارها لم تنقطع، ابتداء من نكبة فلسطين 1948 حتى طوفان الأقصى الذي مازال يجتاح غزة عدواناً تدميرياً ومقاومة مستميتةً؛ فهناك قصائد الشاعر محمد بن علي السنوسي وأحمد إبراهيم الغزاوي ومحمد حسن عواد وطاهر زمخشري و عبد الله بن خميس وعبد الرحيم منصور وحسن عبد الله القرشي الذي خصّص خمسة دواوين شعريّة لفلسطين: “ لن يضيع الغد”، و«نداء الدماء»، و«فلسطين وكبرياء الجرح»، وقد أهدى ديوانه هذا إلى الفدائي العربي الذي صنع من الجرح المقدس وسام بطولة حمراء على حدّ تعبيره و«عندما يترجل الفرسان»، و«عندما تحترق القناديل” وكذلك الشاعر عبد السلام هاشم حافظ الذي خصّص ديواناً كاملاً للحديث عن قضية فلسطين، وهو ديوانه «أغنيات الدم والسلام». الذي اشتمل على (21) واحد وعشرين نصاً شعرياً، والشاعر عبد الله بن إدريس، وإبراهيم فودة في ديوانه |(مطلع الفجر) والشاعر محمد هاشم رشيد، وإبراهيم الدامغ، والشاعر أحمد سالم باعطب، وحسين عرب، وإبراهيم العلافي، وهؤلاء يعدّون من جيل المحافظين الإحيائيين والمخضرمين، ولمع من بينهم الشاعر الأمير عبد الله الفيصل الذي يعدّ من روّاد الاتجاه الوجداني الغنائي ومن أبرزهم. ثم جاء بعدهم جيل جديد تنوّعت اتجاهاته الجمالية؛ وظلّ – في مجمله - وفيّاً للقضية ملتزماً بها. ولقد اتسق موقف الشعراء السعوديين مع نظرائهم من الشعراء العرب في رفضهم لاتفاقات السلام مع الكيان الصهيوني متسقاً مع قاعدة الرفض لوجود هذا الكيان الغاصب، ومن الطبيعي أن يستجيب الشعراء للوجدان الشعبي الرافض لهذا الكيان برمّته باعتباره جسما عدوانيا غريبا؛ فكان الشاعر سعد الحميدين في ديوانه ( أيورق الندم) هو من أبرز رواد الحركة الشعرية متناغماَ مع الشاعر أمل دنقل في قصيدته الشهيرة (لاتصالح) في رفضه لاتفاقية كامب ديفيد؛ إذ يقول: “غير مجد / غير مجد / إنني أخدع عقلي / إنني أرغم نفسي / يا ترى كيف أصدق /أن من كان.. وما زال / يدوس برعما / يسحق الصخر و .. ويكوي الطين / بالنار و بالقار المحمى / بأتون العرق والأصل المصفى / مثلما يزعم / يسكن الآن ويهجع “ إلى أن يقول “ ويصافح كي يصالح”. ويمضي على هذا النسق كثير من الشعراء مثل الشاعر حبيب المطيري في قصيدته (لا): “ستبزغ اللآت كالنهار / كالفجر كالشموس / كاستدارة الأحلام “ ولعل المقصود باللاءات تلك التي أقرّها مؤتمر القمّة العربي في الخرطوم في أعقاب نكسة حزيران 1967 وعلى نحو ما ذهب إليه الدكتور صالح الحمود في دراسته الموسومة (البعد السياسي للواقع العربي - الشعر السعودي وقضية فلسطين أنموذجا) فإن الشاعر المطيري ينسجم مع هذا التيار الشعبي ويعرّي الواقع، ومن الواضح أن نبرة الغضب تسود الخطاب الشعري عبر تكراره لأداة النفي لا، وهذه المقاطع القصيرة التي تتدافع كلماتها كأنها رصاصات تنطلق من فوهة بندقية، وخصوصا ذلك المقطع الغاضب الذي يخاطب به العدو: “يا أيها القطيع، يا شراذم اليهود / يا لعنة الزمان/ والمكان و الجدود / يا أرذل العبيد/ يا حثالة الدهور “. وإذا كان المطيري يستشيط غضباً مكشوفاً في قصيدته ما يجعلها تبدو وكأنها تستجيب استجابة مباشرة للوجدان الشعبي فإن غازي القصيبي يسلك نهجاً مغايراً في تشكيله لجماليات القصيدة، ما يمنحه رؤية أكثر عمقاً وإن بقيت السمة الغنائية التعبيريّة ما ثلة في شعره المتعلّق بالقضية الفلسطينية؛ فبينما كان سفيراً للمملكة في لندن نشر قصيدة على الصفحة الأولى من صحيفة “الحياة” بعنوان “الشهداء”، يثني فيها على آيات الأخرس (18 عاما) من مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة بيت لحم) التي نفذت عملية استشهادية عام 2002 في سوق بالقدس الغربية، مما أسفر عن مقتل شخصين. وجاء في قصيدة القصيبي: قل لآيات يا عروس العوالي كل حسن لمقلتيك الفداء حين يخصى الفحول صفوة قومي تتصدى للمجرم الحسناء تلثم الموت وهي تضحك بشرا ومن الموت يهرب الزعماء فثمة سخرية مريرة توشّح القصيدة، وفيها مفارقة تجمع بين رِقّة الأنوثة وصلابة الرجولة في مقابل الخصاء والعقم، والخطاب المزدوج للمجهول المعلوم والشهيدة الحيّة، والتغني بالمحاسن والجمال البطولة والفداء. وتتجلى ملامح التشكيل الفنّي بسماتها الحداثيّة في لون من ألوان التغريب بمفهومه لدى الشكلانيّين الروس، حيث الجمع بين ثنائية المشهد في التقنيات السينمائية بما يعرف باللّقطة المضاعفة في ازدواجيّة تنبني على المفارقة؛ فالشاعر يصور جلسته على المقهى وهو يحتسي القهوة ما يوحي بالرحة والمتعة في مشهد فيما يقرأ ويتخيل جثث الفدائيين وهي تتناثر ذات اليمين وذات الشمال : “أقرأ في جرائد الصباح/ مات فدائي هنا / مات فدائي هناك/لكنني ياسيدي أظل أحسو قهوتي “ يفسح المجال لمخياله ليستدعي من يخاطبه ويعاتبه ويغاضبه (أينك يا أخا العرب). وتتماثل نغمة الحزن لدى معظم الشعراء العرب إزاء نكسة حزيران؛ فبين ما قاله نزار في هوامش على دفتر النكسة وما قاله القصيبي أكثر من شبه من حيث السخرية المرّة والذهول؛ غير أن ثمة من صمد أمام هول المأساة وبدا صُلباً متماسكاً على الرغم من ثقل الزمن وتراخي العزائم كما في شعر محمد سعيد العامودي الذي توقّف عنده الدكتور صالح الحمود في دراسته التي أفدت منها ومن النماذج التي ساقها، فقد أشار إلى المنحى المختلف للشاعر حمد الزيد الذي رأى في النكسة صحوة ويقظة، وبدا متفائلاً، وقد كان شديد الإحساس بما أحدثته النكسة من يقظة الوعي لذا جاء خطابه الشعريّ مباشرا: “ يا بلادي / إني وسط البلايا متفائل/ فوراء الليل صبح / و وراء البؤس سعد” وثمة منحى آخر يقوم على استلهام التاريخ وأبطاله ووقائعه وتمثله وتوظيف إسقاطاته على الحاضر، كما فعل أحمد الصالح (مسافر) باحثاً عن المخلّص في شخص صلاح الدين ، ومن ينهض بالدور الذي قام به في وقف العدوان و تخليص المقدسات :” أبطالها/ اهتزت بهم غيظاً شواهد قبور/ يبحثون بيننا/ عن فارس ما سوّفت يمناه” وموقعة حطين ألهمت شعراء آخرين من أمثال الشاعر محمد عيد الخطراوي. وفي مسار آخر يبدو العتاب قاسياً لإخوان العقيدة مثقلاً بالعتاب غاضباً متوتراً في سلسلة من الاستفهامات المفعمة بالإنكار موجّهاً إلى الأمة كلها: “أغثاء كعثاء السيل نحن / أجهام كجهام الليل نحن / أفراغ كفراغ الليل نحن / أخواء كسراب الأرض نحن “ فعبّر هذه الجمل القصيرة المتدافعة والتكرار وقلق السؤال، يتبدّى وجدان مكلوم يتجاوز الاحتجاج إلى الغضب والعتاب إلى التقريع، وفي هذا المسار يأتي الخطاب الشعري عند حسن عبد الله القرشي. وينحو الشاعر عبد الله الرشيد منحى يركن فيه إلى التوجع المكتوم والحزن العميق والتأمّل المخضّب بالأسى عبر الوقوف أمام مرّ الأيام وكرّ السنين وترديد عبارة تتعلق بالزمن الضائع في مطالع أبياته والتصوير والتمثيل الذي ينحو منحى التحديق في الواقع والاعتبارمن خلال قراءة الأحداث والوقائع فيكرّر عبارة (خمسون عاما) ثم يفصّل القول فيما انطوت عليه هذه السنون في تجسيد وتمثيل (صارم فوق هام الحق مسنون) و|(المجد يغضي فتبكيه الملايين) و(ما شدا في أرض العرب حسون) فالإحساس بمضي الزمن وتراكم المآسي شديد الوطأة على الشاعر، والحديث لا ينفد في هذا الموضوع، وقد سبق أن أشرت من النماذج الشعرية التي واكبت الحدث الأخير (طوفان الأقصى).