
لَيْسَتِ الْقَصِيدَةُ لَدَى جَاسِمِ الصَّحِيحِ وَسِيلَةً لِبَثِّ الْقَوْلِ، بَلْ هِيَ ضَرْبٌ مِنِ اخْتِرَاقِهِ. لَا تَقِفُ تَجْرِبَتُهُ الشِّعْرِيَّةُ عِندَ حُدُودِ الْبَلَاغَةِ أَوِ النَّفَسِ الْغِنَائِيِّ الْمُعْتَادِ، بَلْ تَنْفُذُ إِلَى مَا هُوَ أَعْمَقُ: ذَلِكَ الْقَلَقُ الْمَعْرِفِيُّ وَالْجَمَالِيُّ الْمُتَجَذِّرُ فِي وَعْيِ الذَّاتِ بِوَصْفِهَا حَامِلَةً لِمُفَارَقَاتِ الزَّمَنِ، وَمُحَمَّلَةً بِإِرْثٍ مُزْدَوَجٍ مِنَ الْوَجْدِ الصُّوفِيِّ وَالْجُرْحِ الْجَمْعِيِّ. لِهَذَا، لَا يُمْكِنُ قِرَاءَةُ الصَّحِيحِ بِوَصْفِهِ شَاعِرًا تَقْلِيدِيًّا حَتَّى حِينَ يَكْتُبُ الْعَمُودَ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ – حَدَاثِيًّا – مُسَلَّطَةٌ عَلَى الْبَاطِنِ، عَلَى مَا لَا يُقَالُ، عَلَى كَسْرِ الْمَأْلُوفِ بِتَرَفٍ لُغَوِيٍّ لَا يُشْبِهُ سِوَى صَوْتِهِ.يَكْتُبُ الصَّحِيحُ مِنْ تُرْبَةٍ مُشْبَعَةٍ بِرَمَادِ الرُّؤْيَا. وَهُوَ، وَإِنْ أَوْغَلَ فِي التَّفْعِيلَةِ وَالْوَزْنِ، لَا يَسْكُنُ أَبَدًا ضِمْنَ قَوَالِبِ الشَّكْلِ، بَلْ يُعِيدُ تَشْكِيلَ الذَّاكِرَةِ وَالْهُوِيَّةِ وَالرَّمْزِ فِي كُلِّ نَصٍّ، مُتَّكِئًا عَلَى مَا يُسَمِّيهِ «الِانْتِمَاءَ الْمُضَاعَفَ» بَيْنَ الذَّاتِ وَالزَّمَنِ، بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْمُطْلَقِ. وَلِذَلِكَ تَغْدُو قَصَائِدُهُ نَمَاذِجَ فَرِيدَةً لِمُصَاهَرَةِ النَّفَسِ الْعِرْفَانِيِّ بِالنَّفَسِ السِّيَاسِيِّ، وَالْمَيْلِ الْغَزَلِيِّ بِرُوحٍ مَأْسَاوِيَّةٍ كَأَنَّهَا سَلِيلُ الْحُسَيْنِ. فِي بَاكُورَةِ أَعْمَالِهِ، بَدَا الصَّحِيحُ مُتَعَلِّقًا بِجَمَالِيَّاتِ الْحَرْفِ وَصَرَامَةِ الْوَزْنِ، لَكِنَّهُ سُرْعَانَ مَا أَدْرَكَ أَنَّ الشِّعْرَ لَا يُنْقِذُ إِلَّا حِينَ يُخَالِفُ شُرُوطَ إِنْقَاذِهِ؛ فَبَدَأَتْ قَصِيدَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ رِدَاءِ الْفَصَاحَةِ إِلَى عَرَاءِ التَّأَمُّلِ، وَمِنْ مَدِيحِ الشَّكْلِ إِلَى مُسَاءَلَةِ الْقَالِبِ. هُنَا بِالضَّبْطِ تَبْدَأُ حَدَاثَتُهُ: لَيْسَ فِي نَسْفِ التُّرَاثِ بَلْ فِي إِعَادَةِ تَدَاوُلِهِ دَاخِلَ مَعْمَلِ الذَّاتِ الشَّاعِرَةِ. صَحِيحٌ أَنَّ عَنَواناً كَـ»مَا وَرَاءَ حَنْجَرَةِ الْمُغني» يوحِي بِمَيْلٍ صُوفِيٍّ أَوْ حِسٍّ مَرَاثَوِيٍّ «إن صح التعبير»، لَكِنَّه فِي الْحَقِيقَةِ يُمَثِّلُ خَارَطَةً لِرِحْلَةِ الْإِنْسَانِ الْمُعَاصِرِ فِي أَكْثَرِ أَسْئِلَتِهِ فَدَاحَةً: سُؤَالُ الْمَعْنَى. وَلَا يُمْكِنُ اخْتِزَالُ شِعْرِ الصَّحِيحِ فِي مَسَارٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ وَإِنْ وُصِفَ بِشَاعِرِ الْحُسَيْنِ، لَا يَقِفُ عِنْدَ تُخُومِ الرَّمْزِ الْمَذْهَبِيِّ أَوِ الطَّائِفِيِّ، بَلْ هو يَسْتَبْطِنُ صُورَةَ الْحُسَيْنِ كَـ»أَيْقُونَةِ احْتِجَاجٍ وُجُودِيٍّ»، وَكَعَلَامَةٍ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ مَأْسَاةِ الْإِنْسَانِ الْعَرَبِيِّ الْحَدِيثِ. إِنَّ الْحُسَيْنَ عِنْدَ الصَّحِيحِ لَيْسَ شَهِيدَ كَرْبَلَاءَ فَقَطْ، بَلْ شَهِيدَ كُلِّ قَمْعٍ، وَكُلِّ خِيَانَةٍ، وَكُلِّ صَمْتٍ مُهَيْمِنٍ. مِنْ هُنَا، لَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ تَأْوِيلِ مَشْرُوعِهِ بِوَصْفِهِ بِنَاءً حَدَاثِيًّا عَلَى خَرَائِبِ الْوَعْيِ الْجَمْعِيِّ. وَمَنْ يَقْرَأْ نُصُوصَهُ الْغَزَلِيَّةَ، سَيُفَاجَأْ بِشَاعِرٍ آخَرَ تَمَامًا. هُنَاكَ، لَا صَوْتَ لِلْمراثي وللولائياتِ أَوِ الْمِنْبَرِ أَوِ الْمَلْحَمَةِ. هُنَاكَ فَقَطِ الْعَاشِقُ الْمُنْكَسِرُ، الْمُتَوَجِّعُ، الْمُتَرَفِّهُ بِلُغَتِهِ. كَأَنَّ الصَّحِيحَ يَحْمِلُ صَوْتَيْنِ: صَوْتَ الْجُرْحِ الْجَمَاعِيِّ، وَصَوْتَ الْانْكِسَارِ الشَّخْصِيِّ. وَالْغَزَلُ لَدَيْهِ لَيْسَ تَمْرِينًا جَمَالِيًّا بَلْ انْكِشَافٌ دَاخِلِيٌّ، تَعَرٍّ رُوحِيٌّ، يُلَامِسُ تِلْكَ الْحَافَّةَ الرَّهِيفَةَ بَيْنَ اللَّذَّةِ وَالْفَقْدِ، بَيْنَ الْحُضُورِ وَالْغِيَابِ. وَهُنَا تَتَجَلَّى شِعْرِيَّةُ الْانْخِطَافِ الَّتِي يُبْرِعُ فِي رَسْمِهَا، حَيْثُ الْحَبِيبُ ظِلٌّ، وَالصَّوْتُ رَجْعٌ، وَالْمُفْرَدَةُ مَجَازٌ مُؤَجَّلٌ. وَلَعَلَّ مِنْ أَبْرَزِ مَا يُمَيِّزُ الصَّحِيحَ، ذَلِكَ التَّوَازِي بَيْنَ ثِقَلِ الْمُفْرَدَةِ وَبَسَاطَةِ التَّوْصِيلِ. لَا يُغْرِقُ الْقَارِئَ فِي تَعْقِيدٍ فَلْسَفِيٍّ، لَكِنَّهُ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ لَا يَسْقُطُ فِي الْمُبَاشَرَةِ. يَعْرِفُ كَيْفَ يَزْرَعُ نَوَاتَهُ الرَّمْزِيَّةَ فِي أَرْضٍ مُمَهَّدَةٍ، وَيَتْرُكُهَا تَنْمُو وَحْدَهَا فِي ذِهْنِ الْقَارِئِ. وَهَذَا سِرُّ شَعْبِيَّتِهِ النُّخْبَوِيَّةِ: أَنْ يَكْتُبَ لِلْجَمِيعِ دُونَ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ صَوْتِهِ، أَنْ يَظَلَّ نُخْبَوِيًّا فِي الرُّؤْيَةِ، جَمَاهِيرِيًّا فِي التَّأْثِيرِ... ... وَهُنَا نَتَحَدَّثُ عَنْ نَوْعٍ نَادِرٍ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَحْتَفِظُونَ بِجَمَالِيَّاتِ الْقَصِيدَةِ دُونَ أَنْ يُضَحُّوا بِشُرُوطِهَا الْأَخْلَاقِيَّةِ أَوِ الْجَمَالِيَّةِ. عَلَى صَعِيدِ اللُّغَةِ، لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُ مَا لِلَّفْظَةِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ حُضُورٍ فِي مُعْجَمِهِ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ لَا يَسْتَثْمِرُهَا بِوَصْفِهَا زُخْرُفًا، بَلْ بِوَصْفِهَا أُفُقًا دَلَالِيًّا مَفْتُوحًا. وَالْمَجَازُ عِنْدَهُ لَيْسَ لُعْبَةً لُغَوِيَّةً بَلْ ضَرُورَةً وُجُودِيَّةً. يَتَّخِذُ مِنَ التَّضَادِّ سِلَاحًا لِخَلْقِ التَّوَتُّرِ أحياناً وَهَذَا التَّوَتُّرُ هُوَ لُبُّ الشِّعْرِ الْحَدِيثِ كَمَا نَظَّرَ لَهُ بُودْلَيْر وَرِيلْكِه، وَمِنْ بَعْدِهِمْ أَدُونِيس. وَلَعَلَّ الصَّحِيحَ، وَإِنْ لَمْ يُصَنَّفْ ضِمْنَ جَمَاعَةِ الْحَدَاثَةِ الْبَحْتَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْمِلُ بَذْرَتَهَا الرُّوحِيَّةَ الْكَامِنَةَ فِي احْتِفَائِهِ بِاللَّامَرْئِيِّ، وَفِي تَقْوِيضِ السَّرْدِيَّاتِ الْجَاهِزَةِ. وَلَيْسَ عَبَثًا أَنْ تَتَكَرَّرَ فِي قَصَائِدِهِ مُفْرَدَاتٌ مِثْلَ: الْحُلُمِ، الْغِيَابِ، الْجُرْحِ، الْمَقَامِ، الْحَنِينِ، التُّرَابِ، الْوَطَنِ، الصَّمْتِ، الدَّمِ، الطِّينِ، الْحُسَيْنِ... فَهَذِهِ الْمَعْجَمِيَّةُ الْخَاصَّةُ تُصَوِّغُ عَالَمَهُ، وَتُؤَثِّثُ لِخِطَابِهِ الْجَمَالِيِّ الَّذِي يَتَكَرَّرُ دُونَ أَنْ يَتَكَلَّسَ. هُوَ لَا يَكْتُبُ قَصِيدَةً وَاحِدَةً، بَلْ مَشْرُوعًا شِعْرِيًّا يَمْتَدُّ، وَيَتَحَوَّلُ، وَيَتَوَالَدُ مِنْ ذَاتِهِ. وَفِي حِينِ سَقَطَ كَثِيرٌ مِنْ شُعَرَاءِ «الْقَصِيدَةِ الْعَمُودِيَّةِ الْجَدِيدَةِ» فِي فَخِّ النَّمَطِيَّةِ أَوِ التَّجْمِيلِ الْفَارِغِ، نَجَحَ الصَّحِيحُ فِي أَنْ يَصْنَعَ لِنَفْسِهِ تَوْقِيعًا خَاصًّا، لَا عَلَى مُسْتَوَى النَّبْرَةِ فَحَسْبُ، بَلْ عَلَى مُسْتَوَى التَّكْوِينِ الْبِنْيَوِيِّ لِنَصِّهِ. فَقَصِيدَتُهُ لَيْسَتْ بِنْيَةً إِيقَاعِيَّةً تَقْلِيدِيَّةً فَقَطْ، بَلْ بِنْيَةٌ تَأَمُّلِيَّةٌ تَتَصَاعَدُ شِعْرِيًّا نَحْوَ ذُرًى وُجُودِيَّةٍ. إِنَّهَا قَصِيدَةٌ مَأْهُولَةٌ بِمَا تَبَقَّى مِنَ الْإِنْسَانِ فِي الْإِنْسَانِ، قَصِيدَةٌ تُذَكِّرُ بِأَنَّ الْأَلَمَ لَيْسَ مَوْقِفًا بِقَدْرِ مَا هُوَ مُكَوِّنٌ جَمَالِيٌّ. لَا يَسْعَى الصَّحِيحُ لِتَفْجِيرِ اللُّغَةِ كَمَا يَفْعَلُ شُعَرَاءُ قَصِيدَةِ النَّثْرِ، لَكِنَّهُ يُوَسِّعُ طَاقَتَهَا التَّأْوِيلِيَّةَ مِنْ دَاخِلِ بِنْيَةِ الْوَزْنِ. وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْحَدَاثَةِ، لَا يَعْتَمِدُ الْقَطِيعَةَ بَلِ التَّجَاوُزَ. فَكَمَا فَعَلَ مَحْمُودُ دَرْوِيشَ حِينَ وَسَّعَ فَضَاءَ التَّفْعِيلَةِ لِتُصْبِحَ مَسْرَحًا فَلْسَفِيًّا وَجَمَالِيًّا، كَذَلِكَ يَفْعَلُ الصَّحِيحُ فِي شِعْرِيَّتِهِ الشَّرْقِيَّةِ، الْمُعَتَّقَةِ، الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْإِطَارَ الْمَحَلِّيَّ دُونَ أَنْ تُنْكِرَهُ. إِنَّهُ ابْنُ بِيئَتِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا. يَكْتُبُ بِلُغَةِ الْمَآذِنِ، لَكِنَّهُ يَضَعُهَا فِي مُوَاجَهَةٍ مَعَ اللُّغَةِ الْكَوْنِيَّةِ. وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ فِي مَسِيرَتِهِ، نَجِدُ أَنَّ الصَّحِيحَ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَنْ إِعَادَةِ صِيَاغَةِ صَوْتِهِ. تَدَرَّجَ مِنَ الْقَصِيدَةِ الِاحْتِفَالِيَّةِ إِلَى الْقَصِيدَةِ التَّأَمُّلِيَّةِ، وَمِنْ قَصِيدَةِ الْمَوْقِفِ إِلَى قَصِيدَةِ الْكَيْنُونَةِ. وَمَنْ يَقْرَأْهُ بِعُمْقٍ، يُلَاحِظْ أَنَّ صَوْتَهُ الشِّعْرِيَّ أَكْثَرُ فَلْسَفِيَّةً مِمَّا يَبْدُو عَلَيْهِ. إِنَّهُ شَاعِرُ السُّؤَالِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ شَاعِرَ الْإِجَابَةِ، وَشَاعِرُ الْمَعْنَى قَبْلَ أَنْ يَكُونَ شَاعِرَ الْعِبَارَةِ. فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، لَا يُمْكِنُ تَأْطِيرُ جَاسِمِ الصَّحِيحِ دَاخِلَ مَدْرَسَةٍ شِعْرِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ. هُوَ امْتِدَادٌ وَتَرْمِيمٌ فِي آنٍ. امْتِدَادٌ لِمَا تَبَقَّى مِنَ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ حِينَ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى أَكْتَافِ الْعَارِفِينَ، وَتَرْمِيمٌ لِمَا انْكَسَرَ فِي وِجْدَانِنَا الْجَمْعِيِّ حِينَ تَخَلَّتِ الْقَصِيدَةُ عَنْ دَوْرِهَا الرَّمْزِيِّ. شَاعِرٌ لَا يَخْشَى الْعَاطِفَةَ، لَكِنَّهُ يُحَوِّلُهَا إِلَى نِظَامٍ تَأْوِيلِيٍّ؛ لَا يَخْشَى الْمُورُوثَ، لَكِنَّهُ يُعِيدُ كِتَابَتَهُ مِنَ الدَّاخِلِ؛ لَا يُخَاصِمُ الْحَدَاثَةَ، لَكِنَّهُ لَا يَتَوَرَّطُ فِي بَهْرَجِهَا السَّطْحِيِّ. تَجْرِبَةُ الصَّحِيحِ، إِذَنْ، شَهَادَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَصِيدَةَ مَا تَزَالُ مُمْكِنَةً، بِشَرْطِ أَنْ تُكْتَبَ مِنَ الدَّمِ لَا مِنَ الْحِبْرِ، مِنَ الْمَعْرِفَةِ لَا مِنَ الِادِّعَاءِ، مِنَ الْمُجَازَفَةِ لَا مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ. وَهَذَا – بِالضَّبْطِ – مَا يَجْعَلُ مِنْ شِعْرِهِ مَادَّةً حَيَّةً لِلْقِرَاءَةِ الْحَدَاثِيَّةِ، وَلِلْأَسْئِلَةِ الَّتِي لَمْ تُطْرَحْ بَعْدُ.