ذكرى حبيب!

(1) صار صديقي خالد حلما بعد أن كان واقعا؛ أراه يلوّح بيده في الأفق المديد. خالد من أصدقائي الذين ارتقوا من الذاكرة إلى المخيلة؛ من الزمن الماضي إلى المستقبل؛ لذلك أسرد أيامه وتفاصيله بفرح؛ فرح بطعم الحزن الشفيف، وسرور بمذاق اللوعة، إذ يلوح لي في كل طريق أسلكه ذهابا إلى زمن سيفضي إليه يوما ما؛ وحينها ستكون مصافحتنا حارة جدا وسيكون عناقنا أبديا لا تعقبه فرقة ولا تحيط به مخاوف الطريق! (2) طالما احتفى خالد بالذاكرة؛ وكان يدفعني دوما إلى التذكّر، وطالما احتفل بالحلم؛ وكان يحرّضني كثيرا على أن أعيش الحياة بقلب طفل؛ وبشعور لا ينفد من الفرح. (3) كثيرا ما كان يقول لي: لماذا لا تكتب عن ماجد عبد الله؟ ماجد يستحق أن توليه لفتة من كتاباتك فقد صنع لنا الكثير من الفرح، ماجد ليس لاعب كرة قدم، ولكنه صديق حميم لازمنا منذ الطفولة؛ وكنت أعده بذلك حين ينضج قلمي وأصير أقدر على كتابته بما يليق بقامة لها امتداد فارع لا يستطيع أي كاتب، أو لاعب، الوصول إلى أعلى قامته المديدة وارتقائه الشاهق. (4) كان خالد يملك موهبة فريدة في عقد شبكة بين المتنافرات، والجمع بين المتباعدات، فكان يبصر داخل الفوارق التماثلات الخفية، ويلمح تلك الروابط التي تجمع بين وجه أسمر وآخر حنطيّ وثالث أزهر اللون، وبين تلك الوجوه التي لا ترى في ملامحها سوى ما تراه بين آسيوي من أقصى الشرق وأفريقي في أدغال الغابات؛ لكنه مع كل ذلك يلمس ويلمح الرابط في لمعة عين أو ومضة تبسّم أو انصباب مشية على قارعة الطريق. رحل خالد ومعه كثير من الروابط الخفية بين الوجوه لم يكمل نسيجها في لمحاته ودعاباته التي كان يقرأ بها ملامح الوجوه العابرة والدروب الموغلة في الشبه الخفيّ. (5) كنت إذا أقبلت عليه يتبسّم فأعرف أنّه لمح شيئا في مشيتي أو في قامتي فرأى شبحا موغلا في الأساطير أو وجها ملتفّعا بالغبار أو شخصية نادرة من شخوص الحياة اليومية؛ وكان لي عنده أكثر من صورة لأكثر من شخصية يضعها في متحف ذاكرته التي تحتفي بتفاصيل الناس والحياة. (6) كان خالد مغروسا في قلب المجتمع؛ ومغروزا في رمل الذاكرة، وكان يحبّ التذكّر على مهل، كما يحبّ التفكّر على عجَل؛ لأنه كان يحب الهرولة نحو المستقبل بفرح لا يودّ أن يقطعه ببؤس ولا أن يفسده بحزن مجتلبٍ لم يحدث. كان ينظر إلى المستقبل كما ينظر إلى حلم أخضر يزداد نضرة كلما تحدّث عنه برشاقة روح وتطلّع إلى أمل وارف الخضرة والنضرة. (7) دخل الآن خالد في حلمه، واكتمل برحيله، وازداد أناقة في المخيلة بموته؛ فلم يعد مجرد ذكرى؛ بل صار مدار حلم واسع في الأفق البعيد حيث تلوح وجوه الراحلين من أهالي الحيّ، في حارة أخرى وراء الغيب، كأنما أراهم بعين الخيال الشفيف يؤثثون عالمهم بيتا بيتا، ويشيّدون لنا شعبا جديدا ينتظرون به اكتمال العقد لتزهر الحياة من جديد!