انتظار

كان صوت الست أم كلثوم يتهادى على جناح الأثير رويدا رويدا مترقبا على حذر لحظة التحرر من قبضة الفراغات الضيقة المتعرجة للنافذة الخشبية الخضراء المتهالكة التي تتوسط المنزل المغمور كأعين متيقظة تتدلى من جسد ميت ليعتلي صوتها أفقا رحبا واسعا نازفا سحرا يحمل عبق العذوبة في طياته كانت المقطوعة “يا صباح الخير ياللي معانا الكروان غنى وصحانا وصحانا” كفيلة بأن ترد للصباح مسامعه الضائعة وسط الزحام فتمنحه تجلياته اللانهائية فتستفيق بملء الروح ذرات الغبار الكامنة بين ثناياهم من غفوتها القديمة فتتطاير وتتبعثر من ثقوبها كزخات مطر تداعب أعين عمود إنارة ضرير ومن ثم تتمايل طربا مع النسائم الباردة على وقع دقات قلب القلة القابعة على العتبة الخرسانية للشباك وعلى الجانب الآخر كانت الملابس المعلقة على مشانق الصباح ترتدي قلب الفتاة العشرينية المتواري خلفها تراقب موعد حبيبها الذي لم تخطئه يوما وهو يمر من تحت شباكها لحظات ذهابه وإيابه للعمل وما إن خطا أولى خطواته أمام عينيها حتى توارت خجلا من وراء حبال الغسيل لتتلصص خطواته بينما كان هو يرفع رأسه مبتسما إلى أعلى ليقتنص نظرة عابرة ويمضي ببطء شديد وسط ابتسامة عريضة من بائعة الخضار التي اعتادت أن تمد بساطتها في مدخل الحارة منذ عقد من الزمان مرددة ربنا يحقق مرادك يا بني فتتسارع وتيرة خطواته خجلا ويذوب وسط الزحام وكانه فهم مقصد بائعة الخضار ليحل ضيفا جديدا على الحارة السيد شندويلي الذي ظهر في غفلة من الأيام بعدما استفاق أهل الحارة فوجدوه يمتلك معظم المحلات التجارية والشقق السكنية هو رجل بلا تاريخ في تلك الحارة العتيقة لذلك كان الجميع يرتابه على الرغم من محاولته التودد للجميع ولكنها محاولات بائسة لم تمنع هذا التوجس فمضى شندويلي كعادته يرتدي نفس الملابس الرديئة التي اعتاد أن يراه بها أهل الحارة منذ أن وطئت قدماه أرضها ها هو بنفس الهيئة بنطال موديل الخمسينات ونعال يبدو كخف هارب من عباءة الزمان وقميص مقلم بخطوط بنية يبدو كخيمة قديمة مضى حاملا على وجهه ابتسامته الصفراء وفي يديه مغلف ورقي به سندويشان أحدهما فول والآخر فلافل يلقي التحيات على كل من يقابله في الحارة حتى توقف عند بائعة الخضار قائلا صباح الفل يا حاجة فردت بثقل أهلا وتعالى صوتها يا رب يا كريم هونها علينا واهد كل عبادك كانت الساعة تشير إلى التاسعة فتقدمت فتاة عشرينية سمراء البشرة نحو الصيدلية لرفع بابها الحديدي إلا أن الأسطى عدنان (مكوجي ) الحارة وثب مسرعا ليقوم بتلك المهمة المقدسة التي أخذ عهدا على عاتقه أن يقوم بها وفي نفس الوقت اختلس بعض النظرات قائلا صباحك ياسمين يا دكتورة فقاطع حديثه صبي قائلا أبي يسأل عن القميص وأنا كل يوم أسألك تقول لي (بكرة) فضحك ضحكة ركيكة قائلا له طالما قلت لك “بكرة يبقى بكرة هو لسه بكرة جا” لتنصت الحارة فجأة لصوت العم خليل صاحب أقدم محل بقالة بالحارة وهو يلعن ويسب الأولاد الذين يلعبون كرة القدم واعتادوا أن يدخلوا كرتهم في شباك أبواب متجره عند لعبهم فلم يهدئه إلا إحدى سيدات الحارة عندما حطت أقدامها على أعتاب متجره طالبة ربع كيلو بسطرمة فابتسم بعد أن نسي الأولاد قائلا أنا تحت أمر السيادة بينما كان يترقب على جانب الرصيف الأستاذ مدكور مدرس الحساب في المدرسة الابتدائية وأحد وجهاء الحارة كان يترقب نزول زوجته من عند أمها وكان مصطفى ذلك الفتى العشريني الخريج الحديث من كلية العلوم الذي عين محصلا لهيئة الكهرباء يتابع كل ذلك وهو ينتظر صاحب المنزل ليقرأمقياس الكهرباء قال في نفسه عجبا كل من رأيتهم هم في حالة انتظار منهم من ينتظر حبيبته ومن تنتظر زوجها ومن ينتظر رزقه ومن ينتظر شيئا مجهولا الجميع في حالة انتظار ومضى مبتسما.