«زاكا» الصهيونية..

آلة الكذب.

تحاول إسرائيل السيطرة على السرد الإخباري من خلال تطوير عمليات قوة سيبرانية تنشر الأخبار بطريقة مؤيدة للكيان الصهيوني منظمة “زاكا” اليهودية المتطرفة متخصصة في صنع الأكاذيب الممنهجة وتمريرها إلى الساسة والرأي العام العالمي بعد ساعات قليلة من الهجوم الذي شنّته حركة حماس ضد الاحتلال الإسرائيلي فيما يُعرف بـ “طوفان الأقصى”؛ ذكر الإعلام الغربي في معظمه أن مقاتلي حماس قطعوا رؤوس 40 طفلًا إسرائيليًا خلال الهجوم، كانت وسائل الإعلام الغربية تستخدم هذا الموضوع كخبر رئيسي في نشراتها فيما جعلته الصحف الأمريكية والبريطانية خاصةً موضوعًا لصفحتها الأولى، وكررته في تحليلاتها ومقالات الرأي كدليل واضح على وحشية حماس الشنيعة، وانساق الإعلام الغربي وراء الرواية الإسرائيلية في هذا الشأن معتبرًا أن هذا العمل المزعوم هو مبرر كافٍ لقصف قطاع غزة وقتل الفلسطينيين الأبرياء، لكن لم تمرّ سوى ساعات أخرى حتى تم اكتشاف كذب هذا الادعاء المزيّف، وسرعان ما تهرّب الساسة والصحفيون وكتّاب الرأي الذين انبروا لتعظيم المأساة الإسرائيلية من ورائه، لا شك أن هذا الافتراء هو فيضٌ من غيض، فإسرائيل معروفة منذ القدم بتوظيف الإعلام من أجل خدمة سياساتها ومصالحها، وتغطية ممارساتها الوحشية وتبرير سياساتها، مع الترويج للموقف الرسمي الإسرائيلي وتغييب الرواية الفلسطينية الحقيقية، وهذا ما يظهر جليًا خلال الفترة الراهنة. سيناريوهات مصطنعة منذ وقوع عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حماس في 7 أكتوبر الماضي، بدأ سيل من الأكاذيب والافتراءات الإسرائيلية في التشكل، ولكن بشكل غير متوقع قام الكاتب والصحفي الأمريكي ماكس بلومنتال، رئيس تحرير موقع “The Grayzone”، بفضح الكثير من هذه الأكاذيب والروايات المختلقة، متهمًا إسرائيل ذاتها بالمسؤولة عن مقتل مدنييها، فوفقًا لبلومنتال؛ ربما تكون الحكومة الإسرائيلية قد صممت سيناريو يتم فيه تعريض المدنيين للأذى لمنع حماس من احتجاز الرهائن، مشيرًا إلى أن هذه شهادة قائمة على المدى الذي ستذهب إليه الدول للحفاظ على خطاب السيطرة والتفوق، حتى لو كان ذلك يعني تعريض شعوبها للخطر، وتعمق بلومنثال أكثر في ما أسماه “الدعاية الفظيعة” وهي استراتيجية تلاعب تستخدمها الولايات المتحدة وإسرائيل في كثيرٍ من الأحيان، حيث قامت الأخيرة بهذا التكتيك لحشد الدعم للعمل العسكري ضد غزة، بالتزامن مع التلاعب بالأدلة عبر وسائل الإعلام في الدول الغربية، مما يؤدي إلى تغذية تصور منحرف للصراع. ذكر بلومنتال أن “السيارات التي كانت تفرّ من مهرجان نوفا للموسيقى الإلكترونية كانت متفحمة بالكامل وذائبة، والجثث التي بداخلها كانت متفحمة أيضا، كل هذه الصور التُقِطَت وعُرِضَت على وسائل الإعلام الغربية كدليل على وحشية حماس وقيامها بإحراق عائلات إسرائيلية أحياء بالكامل، لكن الأمر الواضح والمؤكد هو أن الجيش الإسرائيلي قام بقصف المنازل القريبة فوق ساكينها في كيبوتس بئيري بالدبابات بعد صدور أوامر عليا بذلك، وفقًا لشهادة أحد حراس الأمن في الكيبوتس، كما قصف سيارات الإسرائيليين أثناء فرارهم من موقع المهرجان الموسيقي، وهناك شهادات أخرى وردت في وسائل الإعلام العبرية تحدثت عن إطلاق نيران منظّم من قبل الجيش الإسرائيلي لمنع مسلحي حماس من اقتياد المزيد من الأسرى إلى قطاع غزة”، وأشار بلومنتال أيضا إلى المعايير المزدوجة في انتقادات إسرائيل لاستخدام حماس المزعوم للمدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية، لا سيما وأن البنية التحتية العسكرية الإسرائيلية مثل مركز القيادة الدفاعية في هاكريا يقع بالقرب من المناطق المدنية مثل مركز عزرائيلي التجاري، وهو ما يشير إلى أن إسرائيل تتجاهل سلامة المدنيين لديها. افتراءات مدروسة لا شك أن فعالية الدعاية الإسرائيلية ليست نتيجة لقوتها أو حقيقتها أو حتى دهائها فحسب، بل بسبب الغياب شبه الكامل للدعاية التي يمكنها أن تدحض ما تقوله إسرائيل وما تكرره وسائل الإعلام الرئيسية في العالم والتي يتمتع اليهود بحصة كبيرة في غالبيتها، فهناك مشاركة يهودية هامة في صناعة الإعلام الغربي، لا سيما الإعلام الأمريكي، إذ يعمل اليهود بنجاح في مختلف جوانب الإعلام؛ من تلفزيون وصحافة وإذاعة وإنترنت، من أجل دعم سياسات الاحتلال وتبرير ممارسات جيشه، ولا شك أن لديه نجاحًا لافتًا في هذا الصدد يمكن ملاحظته في النقاط التالية: تبرير متواصل تقوم إسرائيل بحملات دعاية إعلامية لتبرير سياستها، وتشمل هذه الحملات الوصول إلى وسائل الإعلام الدولية والصحفيين الأجانب لنقل وجهة نظرها وتوجيههم نحو القضايا والروايات التي تدعم موقفها، وتشتهر إسرائيل أيضًا بدفاعها السيبراني المثير للجدل وبرامج التجسس المستخدمة للوصول إلى شبكات الصحفيين والإعلاميين والخصوم، فهي ليست منخرطة في حرب على الأرض فحسب، بل منخرطة أيضًا في حرب معلومات تدور رحاها عبر جميع منصات التواصل الاجتماعي كل يوم. حرب مصطلحات في خضم الحرب الراهنة؛ بدأت إسرائيل في الترويج لمصطلحات تُرهب العالم، حيث أطلقت على عملية “طوفان الأقصى” اسم “11 سبتمبر الإسرائيلية”، وهو مصطلح له وقع كبير على نفوس الأمريكيين خاصةً، كما حاولت شيطنة حركة حماس فوصفتها بأنها “داعش الفلسطينية”، ودعا الإسرائيليون الحكومات الغربية إلى ضرورة تقديم الدعم لإسرائيل من أجل التخلص من حماس والقضاء عليها تمامًا. تحريض متعمد تستغل إسرائيل الإعلام للتحريض ضد الفلسطينيين وتشويه سمعة قادة المقاومة، ومن ثمَّ استهدافهم وتصفيتهم، كما تستخدم إسرائيل لغة قوية للتحريض ضد الهجمات والصواريخ الفلسطينية وبالتالي تبرير الضربات الإسرائيلية العشوائية التي تستهدف المدنيين، ففي حين زعمت إسرائيل أن عناصر المقاومة الفلسطينية يقطعون رؤوس أطفالها، نجحت في خلق صدمة هائلة لدى الرأي العام العالمي وحاولت أن تستغلها لتجريد الفلسطينيين مما تبقى من وطنهم وإنسانيتهم وحقهم في الحياة، وقد ساعدت الكثير من الأكاذيب التي تسوّقها إسرائيل في تشكيل فهم العالم لما تصفه بـ “العنف الذي أحدثته حماس في مستوطنات غلاف غزة”، هذه الأكاذيب المزيفة والمضللة المُصَاغة بعناية تهدف إلى توجيه وجهات النظر صوب فهم معيّن للأزمة، وبالتالي تصوير الفلسطينيين بشكل سلبي وتشكيل نظرة عامة تحريضية ضدهم. استخدام عاطفي يستخدم الإعلام الإسرائيلي القصص الإنسانية العاطفية للتأثير على المشاهدين وجذب تعاطفهم، ويركز على الحكايات التي تعكس الجوانب الإنسانية لجنود الاحتلال والمستوطنين، كما يتم تكرار الرسائل الرئيسية بشكل مستمر من قبل وسائل الإعلام والمسؤولين الإسرائيليين مما يعزز تمويل وتأييد القرارات والسياسات داخليًا ودوليًا. رصد النقد والرد عليه ترصد إسرائيل وتراقب النقد الدولي الموجه إليها وترد عليه بفعالية، بهدف التأكيد على وجهة النظر الإسرائيلية، مع التركيز على تجميل صورة إسرائيل دوليًا وتقديم نفسها كقوة ديمقراطية، لديها مخاوفها الأمنية في منطقة الشرق الأوسط المضطربة، وبالتالي فإن كل أفعالها تأتي على أنها دفاعية ردًا على التهديدات العربية. نشر رواية تخدم مصالحها تحاول إسرائيل السيطرة على السرد الإخباري من خلال تطوير عمليات قوة سيبرانية ذات قدرة عالية تستخدم تكتيكات مثل شبكات الروبوت والحسابات البشرية لنشر الأخبار بطريقة مؤيدة للكيان الصهيوني ومناهضة للفلسطينيين والعرب عمومًا، وتعمل من خلال ذلك على نشر حملات تضليل وتصيد وتضخيم لروايات مفضلة لها، واستراتيجيات قائمة على البيانات لقمع الروايات المناهضة لإسرائيل والتلاعب بالرأي العام العالمي على وسائل التواصل الاجتماعي. تكـرار الكـذب يقول السياسي الألماني يوزف غوبلز، وزير الدعاية في حكومة هتلر: “إذا قلت كذبة كبيرة بما يكفي وواصلت تكرارها، فسوف يصدقها الناس في النهاية”، وهذا ما تفعله إسرائيل تمامًا من أجل إيجاد المبرر الأخلاقي الذي يدفعها لارتكاب حرب إبادة جماعية في غزة، حيث تقتل الأطفال والأمهات والآباء، والفرق الرئيسي بين رواية تقول إن “الفلسطينيين يقتلون أطفال إسرائيليين” ورواية أخرى تقول إن “الإسرائيليين يقتلون أطفال فلسطينيين”، هو أن الرواية الأولى موثّقة عبر تكرارها في وسائل إعلام عالمية عديدة تصف نفسها بأنها ذات مصداقية، وقد لا يكلّف أحدًا نفسه عناء البحث عن أصل الرواية ومدى مصداقيتها، حيث يكتفي الجميع بالترديد والنقل والتكرار لمجرد أن الرواية الأولى قد ذُكِرَت على هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك، أما الرواية الثانية فتظل مجرد ادعاء ولا تجد من يتحدث عنها، فما بالنا إن طالبنا بمن يصدقها!، وهذا هو سر نجاح وفعالية الدعاية الإسرائيلية في رواية أحداث الحرب الراهنة. أكاذيب ممنهجة على الرغم من أن المسؤولين الإسرائيليين لعبوا دورًا مركزيًا في حملة التضليل الإعلامية التي شنتها تل أبيب فيما يتعلق بأحداث 7 أكتوبر، إلا أن بعض المنظمات غير الحكومية تشكّل جزءًا أساسيًا من آلة الكذب الإسرائيلية الممنهجة، وكمثال واضح على ذلك يمكننا الحديث عن منظمة تحديد ضحايا الكوارث “زاكا”، وهي منظمة يهودية متطرفة متخصصة في جمع رفات الموتى اليهود خلال الأحداث الجسام مثل الكوارث الطبيعية وحالات الانتحار والإرهاب، وذلك حتى يتم دفنهم وفقا للشريعة الدينية اليهودية، بَيْدَ أنّ المنظمة التي يعدّ كل أعضاءها من اليهود الأرثوذكس متخصصة أيضا في صنع الأكاذيب وتمريرها إلى الساسة والرأي العام، وهي مسؤولة عن أكثر الأكاذيب الممنهجة التي تلت هجوم حماس في 7 أكتوبر، إذ روّجت لقيام عناصر المقاومة الفلسطينية بقطع رؤوس الأطفال، والاغتصاب الجماعي للرهائن، وصولًا إلى إخراج جنين من بطن والدته، وكان من اللافت أن الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن قد رددا أكاذيب “زاكا” بشكل واضح حول ما وصفاه بـ “فظائع حماس”. خلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأمريكي في 31 أكتوبر الماضي بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة؛ عرض بلينكن مبرراته لدعم إسرائيل ورفض واشنطن لوقف إطلاق النار، عبر استحضار مشهد مزيّف للتدليل على وحشية حماس، حيث تحدث عن “أسرة مكوّنة من أب وأم، وصبي وفتاة عمرهما 6 و8 سنوات، كانوا جميعًا حول مائدة الإفطار، وأثناء الهجوم قام عناصر حماس باقتلاع عين الأب أمام أبنائه، وإصابة الأم، وبتر قدم الفتاة، وبتر أصابع الصبي، قبل إعدامهم جميعًا”، وانتهى في ختام شهادته إلى أن “هذا هو ما يتعامل معه المجتمع الإسرائيلي يوميًا”، لكن على الرغم من أن بلينكن لم يذكر مصدر ادعائه ولم يطلب منه ذلك أي عضو في مجلس الشيوخ، إلا أن تلك الشهادة تتطابق مع الشهادة التي أدلى بها رئيس العمليات في منظمة “زاكا”، يوسي لانداو، والتي تمّ الكشف عن زيفها لاحقًا من خلال الجهد اللافت الذي قام به الكاتب والصحفي الأمريكي ماكس بلومنتال، حيث اكتشف بلومنتال أن لانداو قام بصياغة أشكال مختلفة لتلك القصة، كما أن شهادات العديد من الشهود حول الهجوم لم تشر إلى أي حادثة مماثلة، ولم يتم تسجيل وفيات لأشقاء تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 8 سنوات أو أي وفيات أو إصابات بتلك الطريقة عمومًا، بل إن بلومنتال اكتشف بعد البحث أن الشقيقين الوحيدين اللذين توفيا ضمن هذه الفئة العمرية في المجتمع الإسرائيلي بأكمله في ذلك اليوم، كانا التوأم ليل وياناي هترزوني، البالغين من العمر 12 عامًا، وقد قُتلا بقصفٍ من الدبابات الإسرائيلية. أكثر من ذلك؛ أن بلومنتال قام بفك كل الطلاسم المنسوجة حول هجوم السابع من أكتوبر وكشف زيف التلفيقات الإسرائيلية الهادفة إلى إضفاء طابع درامي على همجية حماس المفترضة من أجل توسيع المجال السياسي أمام هياج الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فقصة لانداو كانت مجرد واحدة من العديد من الحكايات الطويلة التي اختلقتها دائرة صغيرة من الشخصيات المشكوك فيها والتي تمكنت من تشكيل الرواية الرسمية الإسرائيلية لأحداث 7 أكتوبر في وسائل الإعلام العبرية والغربية، وحتى بعدما تمت أولى صفقات تبادل الأسرى، سرعان ما ظهرت أكاذيب منظمة زاكا مجددًا التي حاولت إقناع العالم بأن حماس لم تغتصب النساء الإسرائيليات إبان هجومها فحسب، بل إنها قامت بإساءة معاملة الرهائن الإناث، وكالعادة لم تتمكن من تقديم شهادة واحدة موثّقة أو صورة أو مقطع فيديو يثبت مزاعم الاغتصاب أو إساءة المعاملة، بل إن المشاهد أثناء الإفراج عن الأسرى تدلل على عكس ذلك تماما. منذ سنوات؛ تقود “زاكا” تيار الترويج للقصص الفظيعة المزيفة حول ما يتعرض له اليهود في إسرائيل، وتحاول من وراء ذلك الحصول على ملايين الدولارات من المتبرعين اليهود الأثرياء في الخارج، وقد تمكّنت “زاكا” مؤخرًا من جمع تبرعات طائلة بعدما نجحت في تحويل وسائل الإعلام الغربية وإدارة بايدن وبعض الحكومات الأوروبية إلى وكلاء دعاية مجانية لرواياتها المزيفة، في مشهد هزلي ساخر لانسياق كل هؤلاء خلف روايات “زاكا” دون بذل أدنى جهد للتدقيق أو الفحص، وتتزايد السخرية من كون منظمة “زاكا” تركز إلى حد كبير في دعايتها المزيفة على الجرائم الجنسية البشعة التي تزعم ارتكابها بحق الأسرى وسكان مستوطنات غلاف غزة، بالرغم من أن مؤسسها، رجل الأعمال اليهودي المتطرف يهودا ميشي زهاف، معروف بين المجتمع الأرثوذكسي المتطرف بارتكابه جرائم اغتصاب وعنف جنسي، وقد انتهى به الحال إلى الانتحار بعدما تعاظمت الاتهامات ضده بالفساد والسلوك الجنسي المتطرف. خداع وتشويه للحقائق مع ارتفاع عدد الشهداء والمصابين في غزة إلى الآلاف كل أسبوع؛ سعى المسؤولون الإسرائيليون إلى الحصول على شهادات أكثر رعبًا حول ما حدث في السابع من أكتوبر، كانوا يهدفون من وراء ذلك إلى تفسير الأسباب التي تجعل حرب العقاب الجماعي التي ينفذونها ضرورية من الناحية العسكرية للرأي العام الاسرائيلي والعالمي، وبمساعدة وسائل الإعلام الدولية الموالية جعلوا من الحرب أيضا استجابة سليمة أخلاقيًا، وقد ساعد المجمع الدعائي الإسرائيلي في جعل الولايات المتحدة على المستوى الرسمي تردد وتروّج للقصص المزيفة عن الأطفال والأسر المقطوعة الرأس، والمؤسف أنه حتى بعدما زال غبار الزيف واكتشف العالم الغربي كذب الرواية الإسرائيلية للأحداث، قابلها بترميم للخطأ دون أدنى اعتذار أو أسف، فقد اضطر البيت الأبيض إلى سحب التعليقات التي أدلى بها الرئيس بايدن حين ادعى أنه شاهد “صورًا مؤكدة لإرهابيين يقطعون رؤوس أطفال في إسرائيل”، تبيّن لاحقًا أن بايدن لم ير أيًا من هذه الصور، وقالت تقارير إنه بني ادعاءاته على تأكيدات سمعها من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتقارير إخبارية إسرائيلية كما ردد الأمر ذاته وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات، الذي قال نصًا: “لقد رأينا للتو وسمعنا عن 40 صبيًا صغيرًا تم حرق بعضهم أحياء، وتم قطع رؤوس البعض، وبعضهم أصيب برصاصة في الرأس”، وفي ادعاء كاذب تمامًا زعمت إسرائيل أن لديها معلومات استخباراتية موثوقة تفيد بأن حماس تستخدم المشافي كمراكز للقيادة وتخزين الأسلحة، كان هذا سببًا في قيام القوات الإسرائيلية بقصف المشافي وحصارها، بل اقتحم جنودها مستشفى الشفاء وعبثوا بكل ما بداخله، وبعدما تعاظمت الانتقادات الموجهة للجيش الإسرائيلي على تلك الجريمة، ظهر المتحدث العسكري باسم جيش الاحتلال جوناثان كونريكوس في مقطع فيديو تم تصويره داخل مستشفى الشفاء، مُظهرًا 10 بنادق وذخائر وسترات واقية وزيًا عسكريًا لحماس، زاعمًا أن عناصر حماس كانوا مختبئين داخل غرفة التصوير بالرنين المغناطيسي، أثار الفيديو الملفق حالة واسعة من السخرية، فقد تساءل عالم السياسة الأمريكي نورمان فينكلستين عن السبب وراء عدم قيام حماس بأخذ الأسلحة إلى مركز القيادة والسيطرة التابع لها أسفل الشفاء، مضيفًا: “لقد قررت حماس ترك هذه الأسلحة ملقاة في قسم الأشعة من أجل إعطاء إسرائيل فرصة لالتقاط الصور”، وعندما أظهر الفيديو صورًا قال إنها فتحات أنفاق، تبيّن لاحقا أنها أماكن لتخزين المياه والوقود لأقسام المستشفى المختلفة، لقد كان الفيديو محرجًا للغاية لدرجة أن الجيش الإسرائيلي حذفه بهدوء دون أي تعليق، وفي وقت لاحق زعمت إسرائيل أن صاروخًا أطلقته المقاومة أصاب المستشفى المعمداني في 10 نوفمبر، لكن صحيفة نيويورك تايمز فنّدت هذا الادعاء وأظهرت أن القصف الإسرائيلي هو الذي أدى إلى مقتل 7 فلسطينيين هناك وتضرر المشفى في ذلك اليوم، لقد نجحت إسرائيل في الترويج للغرب كذبة كون المستشفيات مراكز قيادة لحماس أو إخفاء لأنفاقها من أجل منح إسرائيل تصريحًا مجانيًا لمهاجمة المستشفيات، وهو ما قامت به إسرائيل بالفعل عندما قصفت مستشفيات: المعمدانية والشفاء والإندونيسية والرنتيسي والنجدة العامة والقدس والتركية وغيرها من المستشفيات، والتي راح ضحيتها المئات من الشهداء والجرحى المدنيين. انتشرت أيضًا رواية في الإعلام الغربي تشير إلى حالات اغتصاب محددة أثناء الهجوم الذي شنته حماس، لكن سرعان ما نجد صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” تحذف هذه الرواية من على صفحاتها بتاريخ 9 أكتوبر، لأن المعلومة لم يتم إثباتها، والغريب أن بعض المسؤولين الأمريكيين قد أشاروا في تصريحاتهم إلى الاغتصاب ضمن فظائع الحرب التي عانى منها الإسرائيليون، وكان في مقدمتهم أيضا الرئيس بايدن، الذي أوضح أنه قد تم إخطاره بهذا الأمر في مكالمة هاتفية مع نتنياهو، ليتم الكشف لاحقًا أن مصدر هذه المعلومة من أساسها هي صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، التي لم تنجح في إثبات ذلك ونسبت القصة إلى منظمة “زاكا”، وفي مقال افتتاحي لمجلة “نيوزويك” بتاريخ 22 نوفمبر، تحدثت المجلة عن شهادة لزوجة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ تؤكد فيها مشاهدتها لمقطع فيديو يُظهر عناصر من حماس يعذبون امرأة حامل ويزيلون ملابسها، ليتبين لاحقًا عدم وجود مثل هذا الفيديو، وأن المصدر الوحيد الذي تحدث عنه هي منظمة “زاكا” التي قامت أيضا ببث لقطات لعصابة مخدرات مكسيكية تعذب سجينًا حتى الموت، وذكرت أنها لأفراد من حماس يعذبون إسرائيليًا!، المؤسف أنه حتى الآن لم تصدر تصحيحات لتلك الأكاذيب إلا عدد ضئيل من المؤسسات الإخبارية التي ساهمت في تضخيم العديد من تلك القصص المزيفة، فقصص الخداع والتشويه وأنصاف الحقائق شقّت طريقها بسرعة البرق في وسائل الإعلام الغربية، فيما لا تجد الحقائق من يتحدث عنها. تشويش وتعتيم اعتادت إسرائيل على الكذب الإعلامي، والأدهى أنها حين ترتكب المجازر تجد لنفسها التبرير المناسب، بل وحتى ما يبرأها من المسؤولية، ففي 9 يونيو من العام 2006، قتلت القوات الإسرائيلية أسرة مكونة من 7 مدنيين على شاطئ غزة، تمتمت إسرائيل حينها ببعض الاعتذارات، ثم سارع الجيش إلى تشكيل لجنة للتحقيق في الحادث، وسرعان ما برأ جنوده من المسؤولية وزعمت اللجنة بأن الجيش أطلق 6 قذائف على شاطئ بيت لاهيا وما حوله لكن انفجارًا منفصلًا ـ زعمت أنه ربما يكون لغمًا زرعته حماس - أدى إلى مقتل الأسرة بأكملها، وكانت تلك كذبة من الإسرائيليين بالطبع، لقد سعت إسرائيل بشكل مستمر إلى اللجوء إلى التضليل والتزييف واستخدام الخداع كأدوات رئيسية، حيث نشأت سياساتها المسمومة منذ الأكاذيب الجذرية التي تغاضت عن الوقائع والتصقت بالأساطير، واعتمدت المشروعية الصهيونية الحديثة في إقامة الدولة على أساس هذه الأوهام والتصديقات الخاطئة، فيما اعتمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الكذب كمبدأ أساسي لتغطية الحقائق، وتشويه صورة منافسيها، وإخفاء التجاوزات الأخلاقية التي ارتكبتها، وتبرير أفعالها التي تعارض القوانين الدولية والأخلاق الإنسانية. إن إحجام الحكومات الغربية، وفي مقدمتها إدارة بايدن، عن السعي لتحقيق العدالة لأناس أبرياء عُزّل هو انعكاس لعدم كفاءة تلك الحكومات في مواجهة اللوبيات الصهيونية، وربما يفسر هذا مصدر وقاحة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو الذي تفاخر ذات يوم قائلاً: “أمريكا شيء يمكننا تحريكه بسهولة شديدة”، ومن اللافت أنه في أعقاب كل المآسي تستخدم الدعاية الإسرائيلية بمساعدة وسائل الإعلام الغربية أساليب التشويش والتعتيم، مما يؤدى إلى أيام من الجدل حول الحقائق البديلة، فالأكاذيب حول الأطفال الموتى مثلًا كانت ضرورية لجعل الأعداء غير إنسانيين بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا شك أن قصة الأطفال مقطوعي الرأس تعكس أصداء قصص أخرى كاذبة حاولت إسرائيل استخدامها لتبرير القتل أو شنّ الحرب أو ارتكاب المجازر الشنيعة بحق الفلسطينيين، لقد كان استهداف إسرائيل المتعمد للمدنيين الذين يبحثون عن ملجأ في أماكن أكثر أمانًا جزءًا من استراتيجية الحرب الإسرائيلية منذ إنشائها عام 1948م، لكن لماذا نجد أن إسرائيل واثقة إلى هذا الحد من أن أكاذيبها سوف يشتريها العالم المتحضر؟، لا شك أن هناك آلة إعلامية تقلب الحقائق ببراعة وتزيّف الوعي بكفاءة وتبرر كل جريمة أو مجزرة.