تيه.

وكأن أنوار العالم أطفئت فجأة، ثقُل جسدي وأعتم الطريق وتاهت الاتجاهات، المطر يهطل بشدّة، قطرات المطر تنقر وجهي، سرت وأنا أتلمّس الجدار بيدي اليمنى، مضيت مستهدياً بذاكرتي وليتني لم أفعل، إذ لم ترحم شقائي بهذا الظلام فأردفت في قلبي شقاء آخر حين دفعت بمخزونها من حكايات عبثي وضلالي، فأنساب مع كل حكاية وأستغرق فيها ثم أتعثر وأهوي على وجهي، أنهض مكللاً بغبار الأرض، أمسح وجهي وأبتهل طالباً المغفرة، وأسير بضع خطوات قبل أن أجاور بيت ينبعث منه ضوء ضعيف، أتذكر هذا البيت فتسوطني ذاكرتي بحكاية لي بين جدران هذا البيت، حكاية تلفت في محاولة نسيانها كي لا ترهقني، نجحت في ذلك، واليوم تحلّ عقوبتي فأعيش لحظات الحكاية وأتمثلها أمامي فأتعثر وأهوي ثانية على وجهي، أنهض وأمسح وجهي من غبار الأرض وأبتهل طالباً الصفح من ربي والمغفرة. بعد وقت دام نحو ساعة وأنا أتخبط في ظلام الأيام والطرقات لاح لي نور يشع من بعيد، وصوتٌ ينطلق من أعماقي، صوت يشبه صوت طفل، تههلت أساريري ونشطت نفسي فحثثت الخطى لأبلغ ذلك النور وأهجر ظلام الطريق وظلم ذاكرتي. في كلّ خطوة أخطوها نحو الضياء اللامع أتخفف شيئاً فشيئاً من أثقال تهصرني، أنهكني الظمأ فانعطفت يميناً وصحت بصوت مشروخ لعل أحداً يسقيني ويطفئ لهيب عطشي، لا أحد يبين في عتمة ليل مُطبق، الظلام يزداد عتمة ولا جدار أسترشد به وأستند إليه. ثقل جسدي يزداد، وخطواتي تغوص في الأرض رغم صلابتها، وكلما ظننت أني اقتربت من ضوء يلوح من بعيد أكتشف أن الظلام يعاندني ويسقط ظلاله المعتمة في كل ناحية ألتفت إليها. عناد أزلي بين نفس تتوق للضياء بعد أن أتلفها الظلام، وظلام مستبد لا ينقشع مهما طالت الطرقات وتشعبت الالتفاتات. بعد نحو ساعة عبرت بجانب بيت مهمل قديم متهدم، رفعت هامتي فإذ أنا أمام عتبات البيت، تهيّجت ذاكرتي فدفعت بحكاية أخرى هفت قلبي لها، حكاية صغيرة ناعمة لدنة تذكّرت لهوي الصغير وعبث طفولتي تحت عتبات هذا البيت، أكملت سيري ولم أتعثر هذه المرة، فأدركت أن وقت العثرات قد مضى، فابتهلت بأدعية وتضرّع. تجاوزت مدينة الظلام نحو نور مشع يتلألأ ويملأ السماء ضياءً، دفعت بكل قواي لأصل وأنعم بالضياء اللذيذ، وماهي إلا خطوات سرتها قفزاً ووصلت إلى جدار يشع نوراً أبيض فارتميت تحته وغفيت.