حكاية ذبابة.
كانت تمارس هوايتها المفضلة بالتنقل داخل أرجاء حافلة دخلت بها مع فتح أحد نوافذها، توقفت على رأس إحداهن، سمعت شهيقا يصدر منها، طارت لتقف قبالتها على حافة الكرسي، وجدت عيناها اغرورقت بالدموع، توجهت لها واقتربت من عينها لكنها فوجئت بيدها تحاول ضربها، طارت بعيدا وهي مستاءة ومتذمرة تحادث نفسها؛ «يا لها من حمقاء هذا جزاء من أرادت الطبطبة عليها ومسح دموعها»، توقفت فيما بعد عند طفل بين أحضان أمه نائماً، أعجبتها براءته، اقتربت منه لتقبله وتداعبه لكنه بدأ يظهر استيائه وخشيت والدته من انقطاع نومه فحاولت ابعادها بيديها، استاءت أكثر فقالت: «ما بها؟ لما تحاربني وأنا فقط وددت تقبيله، يا لها من أم أنانية» ... طارت مبتعدة عنها، وفكرت في تغيير مزاجها الذي بدأ يتعكر وأخذت تداعب السائق، كانت تقف على جبينه تارة، وعلى أحد وجنتيه تارة أخرى، ولكنه كان غير مهذب معها، فقد فتح لها النافذة وأخذ يلوح بيده وكأنه يطردها، تذمرت وقالت؛ «ومن هي التي سترضى بهذه الإهانة وتستمر بالجلوس في حافلتك البائسة!»، خرجت وهي منزعجة تتلفت هنا وهناك، وقفت لتستريح على ظهر قط يتمشى في أحد المواقف التابع لأحد المقاهي، سمعته يتكلم بحزن عن جوعه وأنه لا يعلم كيف أصبح هنا في مكان لا يجد فيه شيئا يأكله، ولا أحدا من هؤلاء البشر الأغبياء يعطف عليه بشيء من الطعام، ابتسمت وهي تتذكر مواقف الحافلة لتقول في نفسها بأنه على حق، هم فعلا بشر حمقى ... اتجهت لطاولات المقهى الخارجية، شممت تلك الروائح التي جعلتها كما السكران، أحست بعطش شديد، توقفت على أحد الأكواب لتروي عطشها، لكنها تعثرت وسقطت بداخله، شعرت بدنو أجلها، أخذت تتذرع إلى الله أن ينجيها وهي تحاول الخروج، سمعت أثناء ذلك صرخة شديدة مع كلمات فيها إساءة لها (ويع، قرف)، والأخرى تقول لها بأن تأخذ كوب قهوة آخر، سكبت الفتاة القهوة في التربة التي بها أزهار، وقفت على جنب تداري نفسها وتجفف جناحيها، وهي تقول متذمرة إنني أفضل منك، أنت أيتها المخلوق الشرس ... وأخيرا استطاعت الطيران، ذهبت لطاولة أخرى، كانت فتاة كريمة بخلاف الأولى، سمحت لها الوقوف على فتات كعكة لتشبع جوعها، ولم تحاول إبعادها أو ضربها، كانت أنغام الموسيقى سرقت عقلها لمكان آخر، بعد انتهائها من الطعام طارت متجهة للطاولة المجاورة التي بها كوب مهجور، جلست على طرفه لتروي عطشها الذي ازداد عما قبل، ارتوت بحذر ألا تتكرر غلطتها الأولى وقبل أن يصل رذاذ المنظف الذي أطلقه عامل المقهى فردت أجنحتها وطارت بعيدا ... حاولت دخول المقهى نفسه لكن كان هناك هواء قويا يمنعها من دخوله، رجعت لتلك الطاولات الخارجية، استقرت على طاولة بها شابان يتبادلان أطراف الحديث والسعادة كانت سائدة أجواءهما، استمتعت وهي مستقرة هناك وأخذت تفرك يديها ورجليها، لكنها شعرت بشيء من الضيق حينما أشعل أحدهما سيجارة، أفسد دخانها متعتها ليجعلها تطير بعيدا متسائلة: «لما البشر يسعون لفساد صحتهم! نحن الذباب أفضل منهم» ... رجعت أدراجها نحو مواقف السيارات، أخذت تطير وترتفع للأعلى ثم تنزل لمستوى قريب من الأرض، تجولت حول كل السيارات، لتجد أنواع عديدة، وتقف على زجاج نافذة كل منها تستطلع على ما في داخلها لترضي فضولها، وجدت النظيف من الداخل والخارج، وأخرى نظيفة من الداخل لكن خارجها يطلب الرحمة ويدعو دعاء الاستسقاء ليهطل عليه وابل النظافة، وأخرى لم تستطع رؤية داخلها بشكل جيد، كان الزجاج يميل للسواد قليلا، وأخيرا وقفت على نافذة سيارة أعجبتها، أخذت تبحث عن مدخل لها ولم تجد، قررت الانتظار ريثما يأتي صاحبها، صارت تفكر فيما ستفعله، وعن المغامرات التي ستخوضها، وضعت خططاً للتسلية، لتحقق هدفها ضد هذا المخلوق الشرس، الذي يحاول في كل مرة يجدها طردها أو ضربها، وربما يصل لمحاولة تسميمها، أثناء تفكيرها وصل صاحب السيارة وبيده كوب قهوة، يبدوا شابا في عقده الثاني، فتح باب سيارته لتدخل بشكل سريع خفية قبل أن يغلقه، اتكأت على الكرسي الخلفي تراقبه، وعندما بدأ السير أخذت تتجول في السيارة لتتفرج على كل جزء منها، ثم بدأت هوايتها وخططها ضده، فصارت تضايقه من خلال الوقوف على ملامح وجهه وهو يحاول إبعادها دون جدوى، فتح لها نافذة السيارة لكنها اختبأت في الجزء الخلفي حتى ظن أنها خرجت لتعاود مضايقته من جديد، وصلت لكوب قهوته حاولت الوقوف على سطحها ورمي جراثيمها، ثم توجهت مرة أخرى لوجهه، ليفتح بدوره نافذته. خرجت وهي ضاحكة على مظهره، ارتفعت إلى الأعلى لتتنفس النصر، ثم رجعت لترى شخصا مصاباً بمرض الغرور والكِبَر من خلال تعامله المتعالي مع أحد الأشخاص، اتجهت له واستقرت على أنفه، كانت تبتعد مع إبعاده لها ثم تعاود الوقوف على أنفه مرة أخرى لتحادثه بأزيزها ساخرة أنا من سيكسر هذا الكبرياء.