“ في مبنى جميل لُقب بالبيت الأحمر، وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، عصر يوم أربعاء بارد في ١٠ مارس عام ١٩٤٨ وضعت مجموعة من أحد عشر رجلًا مكونة من قادة صهيونيين قدامى وضابطين عسكريين شابين اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقيًا، وفي مساء اليوم نفسه أُرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من مناطق واسعة في البلد، وأرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق، محاصرة وقصف قرى ومراكز سكنية، حرق منازل وأملاك وبضائع، طرد وهدم بيوت، وأخيرًا زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم مرة أخرى”. بهذه الأسطر بدأ البرفيسور اليهودي إيلان بابيه كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” ، بهذه الأسطر بدأ يحكي قصة الصهيونية، ويميط اللثام عن إنسانيتها الخادعة، وينزع عنها كل أقنعتها الزائفة، ويهدم خيوط الأكاذيب المنسوجة حولها منذ نشأتها. من العجيب كيف تحدث أمور قبالة عينيك! كيف تراها كما ترى الكون الماثل أمامك؟ ثم يجري تزييفها ونقضها وتكذيبك من حيث لا تدري! قالوا: إنها أرضهم والتاريخ يشهد، وأصحاب الأرض شهدوا، وأنت تشهد أنهم كذبوا وأنهم لصوص الأرض لا مالكوها، قالوا: إنها وعدهم المقطوع لهم، وكتاب الله يخبرنا كيف هجروها وكيف عصوا نبيهم وأبوا دخولها، قالوا: إنهم مساكين أبرياء، ضحايا مغفلين، فراشات ترعى في مراعيها قبل أن تفتك بها الوحوش الضارية، وكلنا سمعنا ورأينا وعاينا مرارًا ماذا فعلت هذه “الفراشات” بإخوتنا في فلسطين، ولا زلت أذكر، وكأنها حدثت البارحة، حادثة إلقاء أحد المستوطنين اليهود عبوة حارقة داخل عربة كانت تقل أسرة فلسطينية إلى المسجد صباح عيد الفطر ! وانقلبت الأفراح مأساة إثر وفاة معظم العائلة وتشوه بقيتها! “بأي منطق يحق لكل يهود العالم الإقامة في فلسطين لأن نسلهم القديم كانوا هناك؟ في حين يُمنع الفلسطيني من دخولها، وجده القريب سكن وعاش ودفن فيها ؟!” هكذا قال كلمة الحق أحد اليهود المنصفين، وهكذا شهد شاهد من أهلها . إيلان بابيه هو برفيسور بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكستير ببريطانيا، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، والمدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية، ولد إيلان في حيفا لأبوين فرّا من اضطهاد النازية بألمانيا، كان شابًا طموحًا تواقًا للعمل لأجل بلاده وخدم ضمن عسكرها، حتى عثر على وثائق ذات يوم غيرت حياته وأسقطت كل قناعاته! كانت الوثائق تصف وبالتفصيل المجازر والإبادات والخطط التي رُسمت ووَقعت لتهجير الشعب الفلسطيني ودفن كل من رفض تحت أرضه، زلزلت هذي الوثائق كيان الشاب المتحمس من صميم أعماقه، وفي شجاعة نادرة قرر تدوينها، والبحث عن مزيد، وتوثيق الحقيقة ونشرها للعالم، طُرد إيلان بابيه من منصبه بالطبع ووُصم كمعادٍ للدولة، وتلقى مئات من تهديدات القتل، لكن ذلك لم يثنه عن عزمه، فقط حطّ برحاله في المملكة المتحدة وشرع ينشر كتبه من هناك. “ بعد أن اتُخذ القرار استغرق تنفيذ العملية قرابة الستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين أي ما يقارب ٨٠٠،٠٠٠ نسمة قد اقتلعوا من أماكن عيشهم و ٥٣١ قرية دُمرت و١١ حيًا مدنيًا أخلي من سكانه ، وهي خطة تشكل مثالًا واضحًا للتطهير العرقي وتعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية .“ “ لقد أصبح من المستحيل تقريبًا بعد الهولوكوست إخفاء جرائم شنيعة ضد الإنسانية ، والآن في عالمنا المعاصر الذي يشهد ثورة في مجال الاتصالات وتكاثر وسائط الإعلام الالكترونية وانتشارها لم يعد في الإمكان إنكار كوارث من صنع البشر أو إخفاؤها عن الرأي العام ، ومع ذلك فإن هذه الجريمة جرى محوها كليًا من الذاكرة العامة العالمية وهي جريمة طرد الفلسطينيين من أرضهم عام ١٩٤٨ “. “ إنها القضية البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل نكرانها وجعل العالم ينساها، إن استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع من واجب مهني، بل إن ذلك كما أراه قرار أخلاقي، والخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها إذا أردنا أن نعطي المصالحة فرصة “. “ لقد كانت أرض إسرائيل أو فلسطين، كما تُسمى في الديانة اليهودية، محط احترام وتبجيل على مر قرون من جانب أجيال من اليهود بصفتها وجهة حج مقدسة، ومن أجل أن يحقق المفكرون الصهيونيون مشروعهم طالبوا بالأرض التوراتية واستحضروها، أو بالأحرى اخترعوها مهدًا لحركتهم القومية الجديدة، وبحسب رؤيتهم أصبحت فلسطين بلدًا يحتله (غرباء) ، ويجب استعادته منهم ، وصفة غرباء هنا تعني كل من عاش على أرض فلسطين منذ الحقبة الرومانية ، وكانت في نظرهم أرضًا خالية من البشر وسكان فلسطين الأصليين ما كانوا إلا عقبات لا تختلف عن عقبات الطبيعة! ولا شيء، لا الصخور ولا الفلسطينيين كانوا يجب أن يشكلوا عائقًا في الطريق إلى استرداد الأرض التي اشتهتها الحركة الصهيونية وطنًا لها “ . وعلى مدار أعوام قبل ١٩٤٨ يحكي إيلان عن مخطط دراسة شمل كل قرى ريف فلسطين وكانت الدراسة تفصيلية ، وشرعت الحركة الصهيونية الوليدة تلملم المتحمسين لها من كل مكان ، ورسم المهندسون خرائط دقيقة لهذه القرى وأُرسل المخبرون يتشممون أخبار أهلها وأناسها وجغرافيتها ومصادر دخلها ودرجة عدائها للحركة الصهيونية، وكانت هذه الأخيرة هي المسؤولة عن الكثير من العنف والتعذيب والمجازر التي ارتكبت في عملية التهجير عام ١٩٤٨ ضد قرى بعينها دون سواها ، وكان المسؤولون في الجيش حريصين للغاية على التغلب على أي ضعف قد يعتري الجنود أو حتى المستوطنين اليهود الذين سكنوا هذه القرى فيما بعد ضد سكانها الأصليين ، وهو ما أعاد لذهني اعتراف جندي إسرائيلي سابق ، حيث قال: إنه من المستحيل عليك أن تصبح بريئًا بعد اعتزالك الخدمة ، فما ترتكبه هناك ببساطة ينزع عنك براءتك! “وخلال أسابيع قليلة أدرك الفلسطينيون أن أوراق اللعبة مرتبة سلفًا ضدهم ، وأن النتيجة النهائية ستكون قرارًا يقضي بتقسيم الدولة بين أصحاب الأرض الأصليين وبين مستوطنين وصلوا منذ فترة وجيزة فحسب، فاليهود الذين لم يملكوا إلا ٦٪ من مساحة الأرض ولم يشكلوا غير ثلث السكان فقط أُعطوا أكثر من نصف البلد ! وعلى هذا النحو فإن أعضاء الأمم المتحدة الذين أخذوا قرار التقسيم ساهموا بشكل مباشر في جريمة التطهير العرقي التي كانت على وشك أن تُرتكب “. وبينما يحكي إيلان عن عمليات التخويف “الصغيرة” التي كانت تتم في عام ١٩٤٧ قبيل شهور من النكبة الكبرى لا يصعب عليك أن تلاحظ أن كل الأساليب المتبعة، كل الخطط التي نظمت ، كل الطرق التي سُلكت من قبيل (المنشورات الورقية التي تهدد أهالي القرى وتخوفهم بولادة حرب مفزعة ستطير فيها أعناق الأطفال والنساء وتهيب بهم النزوح عن بيوتهم وأراضيهم ، أو التسلل إلى القرى ليلًا وإطلاق النيران العشوائية على سكانها الغافلين ، أو الاستيلاء على البيوت فور هجر أهلها لها ومنعهم من العودة إليها مرة أخرى ، أو جذب الاستعطاف والتمسكن أمام الصحفيين والتلبس بثوب الضحية ودماء الأبرياء لم تجف على يديهم بعد ، أو إنكار كثير من العمليات ثم الاعتراف بها لاحقًا وإدراجها ضمن قوائم العمليات الناجحة أو المواطنين الأبرياء الذين يتحولون بين ليلة وضحاها إلى جنود مسلحين ويكشف كل واحد منهم عن ثكنة عسكرية تكمن تحت بيته ) ، كل هذه الطرق تشبه تمامًا ما يحصل في غزة اليوم ، خطوة بخطوة وطريقة بطريقة ، ذات الأسلوب المتعفن المألوف ، ذات التمسكن والتذلل المهين ، وذات الجرائم التي تُقترف بدماء باردة ودون ذرة من ضمير إنساني ! حين أفكر أن كل هذا ، كل تلك المخططات والتنفيذ والأفكار التي استقتلوا من أجل أن تصبح واقعًا حيًا، كلها كانت تتم منذ منتصف القرن الماضي، أدرك إلى أي حد كانت عملية التشويه والاستنقاص من المسلمين والعرب عملية مقصودة ومتعمدة ومخططة ومرسوم لها بدقة، هكذا صدرت كل الأفلام التي أنتجتها هوليوود العزيزة، والتي لطالما مقتناها وعددناها مجحفة لنا كعرب ، ولطالما تساءلنا عن سبب تصويرها لنا كأمة متخلفة جاهلة لا تدري من أمرها شيئًا، في حين تبدو في أمريكا كل مظاهر التقدم والشجاعة والأناقة وألوان الحب والأزياء المترفة ، هكذا يمكننا أن نفهم الصورة كاملة ، ونحن اليوم ندفع ثمن هذا التشويه المتعمد ، إذ يكفي أن يكتب أحد أعدائنا عن العرب أو المسلمين معلومات مغلوطة حتى يصدقها أغلب المجتمع الغربي ، تُرى كم من المال دفعت الحركة الصهيونية حتى ترى هذه الآثار تتحقق لها أخيرًا ؟ لكن كما وعدنا الله جلّ علاه، وكان وعده حقًا “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين “ فاليوم كل وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها الغرب ضدنا صارت سلاحًا في يدينا نحن أيضًا ، ونشأت بين ظهرانينا ثلة كبيرة جدًا مثقفة وواسعة الاطلاع وصرنا نستخدم وسيلتهم للدفاع عن أنفسنا وإظهار الحق وإجلائه حتى وصلت أصواتنا للعالم بالرغم منهم ، لكننا نظل في هوان حقيقي ، لقد سمحنا لهم أن يفوقوننا في كل شيء ، وليس ذلك فحسب بل أيضًا أن يؤثروا فينا ويغسلوا أدمغتنا ويجعلوننا نقع في أيديولوجيتهم ، نقع في حبهم ، حب قاتلينا ، وأبغض خلق الله لنا ، وأكثر من يسعى بكل ما يملك من مال وتكنولوجيا وقنوات إعلامية لمحونا من على وجه الأرض .