في كتاب «البدوي الأخير» لمارسيل كوربر شوك..

مستكشف هولندي يتجول «بين الدخول فحومل».

مارسيل كوربر شوك، هولندي شغفته الصحراء العربية والأشعار النبطية، يمكن أن تعده مستشرقا أو باحثا أو أديبا، أو رحالة من مئات الرحالة الذين أعادوا اكتشاف البلاد العربية على طريقتهم، معظم الرحالة كان اهتمامهم الجغرافيا والسياسة، لكن مارسيل كان يبحث عن الشعراء والشعر، درس اللغات في بلده هولندا، وحصل على الدكتوراة من جامعة القاهرة، حين درس المعلقات أسرته معلقة امرئ القيس، وأذهله ما فيها من وصف ومغامرات وحكايات عن الفروسية ورومانسيات عن المرأة، وتوحش جنسي، وإذ استوقفته عبارة: بسقط اللوى بين الدخول فحومل، وبحث عن معناها فلم يظفر إلا بأن الدخول وحومل مكانان في الصحراء العربية، و بعد سنوات وجد مرجعا في كتاب عن المواقع الجغرافية في الشعر السعودي عنوانه “ صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار” مؤلفه محمد بن بليهد، ذكر أن الدخول فحومل موقعان في عمق الصحراء بين بطاح الحجاز البركانية في الغرب وجبل طويق في الشرق. وهكذا وجد طريقه، كما وجد دعما من إمارة الرياض بتوفير سيارة ومفرزة من الحراس. كانت المنطقة في أملاك مقعد بن نوير، أحد المعمرين من الشيابين الذين ينحدرون من برقا من عتيبة، الدخول جبل تحته ماء عذبة، وتقع حومل على بعد ستة عشر كيلا إلى الغرب، وفي الطريق بينهما توقف ابن نوير أسفل صف من التلال الواطئة المتداخلة وقال: هنا سقط اللوى، لوى هي كل ما يلتوي، وسقط هي كتل الصخور التي تدحرجت وما زالت تنتأ من الرمل، والحفر يؤدى إلى بئر عظيمة، وقد اختلفت على ملكيتها القبائل المجاورة، فأرسلت الحكومة من طمرها لتضع حدا للحقد والغضب بين القبائل. مارسيل كان يبحث عن أشعار لمن نحا منحى امرئ القيس، فوجد ضالته في شعراء البدو، الذين أنتجوا غزير الأشعار في القرن الذي سبق قيام الدولة السعودية، جمع كثيرا من الشعر النبطي، ودرس شعراءه، ثم جاء يتبع آثارهم، بين عامي ١٩٨٦, و ١٩٩٠, و كان يريد أن يجمع كل شعر يجده عند الشعراء وعند الحفاظ، كما كانت لديه استفهامات عن معانى الأبيات والأحداث التي ترويها، وبشكل خاص كان يبحث عن شعر شليويح العطاوي، وعبدالله الدندان وابن بتلا، كما سره أن التقى بشعراء آخرين منهم بخيتان ونابت، وناصر ومحمد الحنايا. القسم الأول من الكتاب عن شليويح العطاوي، يقول: إنه مثالٌ كلاسيكي للصاعد الذي اشتد به الطموح إلى رفع الظلم واختراق الفئات الاجتماعية الأعلى منه بأي ثمن لتأكيد مكانه تحت الشمس، ولذا برع شليويح في أعز فنين عند البدو، فن الإغارة على القبائل المنافسة، وفن الشعر، قصائده تروي عن غزواته التي لم يعرف فيها الكلل، يعرض عن الملذات ورغيد العيش ومغازلة النساء، وعلى استعداد دائم للدفاع عن أصحابه والسماح لهم بالمشاركة في الغنيمة، يقف مع المظلومين ويعامل نساء العدو المقهور باحترام. انتشرت حكاياته شفاها على امتداد الآف الكيلوات، وأصبح حفيده خالد هو راوي أشعاره، ذهب المؤلف إلى خالد الذي استضافه في مساكنه، وتعاطى الطرفان أشعار شليويح، يسجلها المؤلف على أشرطة يفرغها فيما بعد. يشبه المؤلف شليويح بروبن هود، ولعله يشبه الشعراء الصعاليك عندنا. ومن خلال الاحاديث التي يسمعها ويدونها والأحداث التي تمر بهم، وقضايا البدو يخرج الكاتب بالكثير من الاستنتاجات عن ثقافة البدو وحياتهم، في أحد الأيام غضب خالد بن شليويح من مارسيل، كان مارسيل يريد أن يتذاكر معه أشعار شاعرة اسمها مرسا العطاوية، أصابت أهلها سنة جدب فرحلوا إلى مكة، ولم تستطع مرسا أن تتكيف مع حياة المدينة، ويوم لمحت قافلة عائدة إلى ديارها، أيقظ المشهد حنينها، ووصفت مشاعرها بمجموعة من الأبيات أحدها: وجدي عليهم وجد من طاح في الموج غدت به الأمواج ما احدٍ فطله التبس على مارسيل معنى فطله، ولكنه فهم بعدها أن أصلها فطن له، ثم عرف أن النون قد ادغمت في اللام التي تُشدد عادة، وذلك المعمول به في لهجة البدو. غضب خالد كان لأنه لم يكن يحب أن تمارس المرأة هذا النوع من النشاط تبعا للقاعدة أن المجال العام حكر على الرجال. ننتقل في القسم الثاني من الكتاب الى بلاد شمر، وقد عين لمرافقته شاعر الجبلين عبدالعزيز الجريفاني، وهو شاعر يقول قصائد نبطية أحيانا، ولكنه مغرم بشعر المهجريين، ويرى أن الأفضل عدم تشجيع الشعر البدوي لأسباب ذوقية، يعلق الكاتب: أن القدر شاء أن يكون دليله قد كافح كل حياته للتحرر من البيئة التي كان هو يبحث عنها، النظرة إلى شعر البادية أنه يحتوي على كثير من الحديث عن الغزوات بين القبائل الأمر الذي يؤثر سلبا على مشاعر المواطن في بلد يوحد الجميع. ورغم تحفظ المؤلف على دليله فقد عرفه على مجموعة من الشعراء جعلته يعلق أن ثمانين في المئة من السعوديين شعراء لم يُنشر لهم عمل. في بلاد شمر غامر بعبور صحراء النفوذ من رفحاء إلى حائل ليختصر الطريق، كان السائق مغامرا، يقود السيارة بسرعة شديدة، بدأ الاثنان وكأنهما ينتحران، تمزقت ثلاثة من إطارات السيارة، وغرزت عدة مرات حتى انتهت المغامرة. تذاكر مع جلسائه شعر حميدان الشويعر، وابنه مانع، قريبا أصدر المؤلف كتابا كاملا عن حميدان الشويعر. بعد ذلك انتقل إلى وادى الدواسر، حدثوه عن راوية للشعر اسمه ابن هدلا، و لكنه ابن هدلا حين عرف أنه مسيحي قال: لا أخذ ولا عطاء مع الكفار، كان أهل الدواسر متشددين في الدين، وقد كتب عن ذلك أكثر من رحالة، يحلل طبقات الناس في الوادي كما فهمها، الطبقة المميزة هم البدو، يتلوهم الحضر، ثم أبناء العتقاء، ثم العمال الوافدون وهؤلاء قسمهم راسيل أيضا إلى طبقات. الشاعر الذي كان يقصده راسيل هو عبدالله الدندان (البدوي الأخير) والذي كان موضوع كتابه الأول، الدندان هو واحد من آخر الحلقات في سلسلة الشعراء الأميين الجوالين المهددين بالانقراض، اشتهر أولا بشعر الحرب، لكن الحكومة منعت هذه الأشعار لتهديدها لوحدة الوطن، والتزم الرجل بذلك، لكنه وهو شاعر لا يُشق له غبار نظم مئات الأبيات التي ترسم صورة أزلية تكاد تكون ساكنة للأحداث التي تتكرر دوريا في حياة البدو، وصف بأدق التفاصيل جماله الحبيبة، والتحول الذي تمر به الصحراء بعد هطول المطر، ومفاتن النساء اللواتي عشقهن عن بعد، وتحدث عن الجبال التي يصعدها باحثا عن العزلة كلما شعر بالإلهام الشعري يجتاحه، يشعر القارئ بالكثير من الأسى نحو هذا الشاعر العملاق، الذي أمضى حياته مع شعره ومع جماله التي خسرها بعد الجفاف، وقد عاش فقيرا أعزب بلا أولاد، محاصرا في الرقعة التي عاشت عليها قبيلته، الدندان هو اسمه الفني الذى أطلقته القبيلة على شاعرها وتعنى الموسيقى، أبياته تحمل جرسا موسيقيا، تأتيه خافقة أجنحتها من كل حدب وصوب، نظم الشعر عنده لا إرادي، وهو لا يستطيع أن يغير أبياته حتى لو أراد. سيارته العجيبة توقفت نهائيا حتى تطوع مارسيل بإرسالها إلى من يصلحها، تضمن الكتاب قصائد للدندان أكثر من قصائد الآخرين، في هولندا تمت إذاعة الأشرطة التي سجلت للدندان، اللثغة اللطيفة، مسحة الحزن، إتقانه فن الشعر الذي يأتيه مطواعا بلا جهد، كُتبت قصائده وترجمت إلى الانجليزية، وأرفقت بمدخل وقاموس للمفردات، وطبع اسم الشاعر بأحرف من ذهب، على الغلاف مع تصميم شرقي أنيق، عاد المؤلف بالكتاب للشاعر لعله يشعر ببعض السعادة. يحدثنا الكاتب عن شاعر أقل شهرة من الدندان لكنه نازله بقوة في بعض أشعار المنافسات القبلية، اسمه نابت، كثيرا ما ينام في خيمة لشرطة الصحراء، هو صعلوك وشاعر، يأكل مع الشرطة وينام في مغارة ويتسول ما يحتاج لنفسه وإبله القليلة، كانت تنتابه نوبات مما يسميه الكاتب جنون الاضطهاد، وكان أفراد الشرطة يقرأون عليه آيات القرآن لطرد الجن من رأسه، وهو مثله مثل الدندان يعيش على هامش المجتمع البدوي، كان الشاعران ينتميان إلى الشعراء الجوالين، لكن الدندان كان يُعد الشيطان الأكبر بينهما. منافس الدندان الأكبر كان ابن بتلا الشاعر الذي أصبح ضريرا، يصفه الكاتب بأنه “بدوي حتى النخاع، قصائده تصف الحياة في الصحراء، لا نقلا و لا افتعالا، بل مليئة بالحيوية، ومترعة بالخبرات الشخصية، الكلمات التي تتدفق من فمه لها صلابة الحجر وحقيقته، كلامه كينونته، و العكس صحيح، ابن بتلا الفنان يتماهى مع ابن بتلا الإنسان، وبالرغم من أنه أصبح ضريرا وقد كان أميا إلا أنه كان يعرف بالسليقة كيف يجد طريقه إلى قلب الآخر وعقله، كان يكرر بصبر، ويشير بإصبعه ويرسم خطوطا وهمية في الفضاء، تربت يده على كتفي كأنها تتمنى لي الشجاعة، و تغويني في آن، وخلال ثوان قليلة انقلبت الأدوار: كنت أنا الأعمى وهو دليلي” يكتب مارسيل. بقى المؤلف موضع شك بين البدو، كان منزعجا لأنه يرى أن سنوات من الكدح، وإنفاق آلاف الدولارات حبا بشعر الصحراء، تختزل في سؤال وقح: وإيش تستفيد من هذا؟ لم تكن هناك دوافع نبيلة أو سامية، ولكن أن يُحمل مسؤولية عمل خبيث أو احتمال ماكر، فإن ذلك كان أكثر مما يُطاق.