التواضع في أعظم صوره.

في هذه الأيام المباركة تتنزل فيها الرحمات، وتتسابق فيها القلوب إلى الطاعات، يتجلّى خلق التواضع في أسمى معانيه حين تمتلئ القلوب بخشية الله، وتسعى النفوس إلى القرب منه بالطاعة والخدمة والتراحم. وفي هذه العشر الأوائل من ذي الحجة حيث الأعمال مضاعفة، تشرق معاني الأخلاق الإيمانية، وعلى رأسها التواضع، الذي يرفع الله به عباده المتقين. لا شك أن التواضع من أبرز السمات التي يتحلّى بها المؤمنون، وهو خُلقٌ عظيم لا يختلف عليه اثنان. فالتواضع يعكس صفاء الروح ونقاء النفس، ويُجنّب الإنسان الوقوع في براثن الكِبر والغرور، اللذَين يؤديان إلى الترفّع عن الآخرين والتقليل من شأنهم. لقد علّمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، من خلال سيرته العطرة وأحاديثه الشريفة، أهمية التواضع في حياة الإنسان. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمه، فجعل الرجلُ ترتعد فرائصه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هوِّن عليك، فإنما أنا ابنُ امرأة كانت تأكل القديد”. هذا الموقف الشريف يُظهر لنا مدى تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، رغم مكانته الرفيعة، إذ لم يتعالَ على الرجل، بل طمأنه وأزال عنه الخوف. وفي موقف آخر، جاء رجل يفتخر بنسبه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: “أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب”. لم يُنكر النبي صلى الله عليه وسلم نسبه الشريف، لكنه وجّه الأنظار إلى أن الفخر الحقيقي ليس في الحَسَب أو النسب، بل في العمل الصالح والخُلق الكريم. وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه يشارك أصحابه أعمالهم، فلا يرى نفسه أفضل منهم، رغم كونه رسول الله. فقد ورد أنه شاركهم في بناء المسجد، وحمل معهم الحجارة، وكان يخدم نفسه وأهله في بيته. وهذه المواقف وغيرها ترسم لنا أعظم صور التواضع، التي يجب أن تكون قدوةً لكل مسلم ومسلمة. التواضع لا يعني التقليل من الذات أو الانتقاص من الكرامة، بل هو تعبير عن قوة النفس وسمو الأخلاق. فالمتواضع لا يحتاج إلى التفاخر لإثبات مكانته، لأنه واثق بأن الكرامة الحقيقية تأتي من الأخلاق، لا من المظاهر أو الألقاب. وهو يحترم الآخرين بغضّ النظر عن مكانتهم أو هيئتهم، ويعلم أن التفاضل عند الله بالتقوى، لا بالحسب والنسب. وقد قال الله تعالى: “وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا”. وإذا ساد التواضع بين الناس، قويت روابط المحبة، وقلّت النزاعات، وانتشرت الرحمة في المجتمع. ولعلّ ما سبق من أمثلة على التواضع يتجلّى بوضوح في هذه الأيام المباركة، حين نرى رجال الدولة، كبارًا وصغارًا، وهم يقومون بكل شرف واعتزاز بخدمة ضيوف الرحمن، دون كلل أو ملل. إنهم يؤدّون واجبهم العملي بمحبة واحتساب، ابتغاء مرضاة الله وخدمةً لهذا الدين العظيم. فنسأل الله أن يُجزيهم عنّا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم. ختاماً فلنجعل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قدوتنا في التواضع، ولنحرص على التحلّي بهذا الخُلق في حياتنا اليومية، مع الأقارب، والجيران، وزملاء العمل، وبسطا الناس. ولنُدرك أن الله يُحب عباده المتواضعين، ويعلي من شأنهم في الدنيا والآخرة. فالتواضع يزيد من قدر الإنسان، ويجعله محبوبًا بين الناس، ومقرّبًا إلى ربّه عز وجل.