قراءة في كتاب (أيام أندلسية) للأستاذ خليل الفزيع..
نموذج متميز من أدب الرحلة برزت فيه روح الباحث.

زار العديد من الرحالة الأندلس وكتبوا عنها، من أبرزهم: ابن بطوطة، وابن جبير، والمسعودي، وإبراهيم بن يعقوب الطرطوشي في فترات مختلفة، ووثّقوا مشاهداتهم وملاحظاتهم حول المجتمع والثقافة والتاريخ والجيش والعادات والتقاليد والأشياء الأخرى؛ فابن بطوطة كتب رحلته الشهيرة “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” والتي تضمنت تفاصيل عن الأندلس ، وابن جبير كتب رحلة أندلسية حول زيارته إلى غرناطة التي تضمّنت وصفًاً تفصيليًاً للمدينة ،والمسعودي كذلك ، وإبراهيم بن يعقوب الطرطوشي كتب عن الأندلس ، وذكر فيها بعض المعالم التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعية ، والرحّالة الوزير الغساني سافر إلى الأندلس من المغرب في رحلة سفارة لإنقاذ المسلمين الأسرى وكتب عن الأندلس أدباء فرنسيون مثل شاتوبريان وتيوفيل جوتييه وبروسبر مريميه وأدباء إنجليز مثل بايرون وأولدس هكسلي وسومرست موم وكنيث تاينان ،وأدباء أمريكيون مثل واشنتون إرفنج ومارك توين وجون دوس باسوس وأدباء إسبان مثل سرفنتس مؤلف “دون كيشوت”. وكتب الرحالة العرب المعاصرون عن رحلاتهم إلى الأندلس وإن كانوا ليسوا كُثراً مقارنة بالرحالة القدامى، لكن هناك بعض الأسماء البارزة التي وثقت تجاربها في هذه المنطقة التاريخية. من بين هؤلاء:شكيب أرسلان: المعروف بـ”أمير البيان”، وهو رحالة وأديب عربي من لبنان (1869-1946)، يُعتبر من الشخصيات المعاصرة نسبيًا ، حيث كتب عن رحلته إلى الأندلس في كتابه “الرحلة الأندلسية”، وكذلك نوري الجراح الشاعر والباحث السوري المعاصر،.ومن الرحالة السعوديون المعاصرين الذين كتبوا عن رحلاتهم إلى الأندلس و محمد بن ناصر العبودي الذي ألف كتاب “رحلة إلى الأندلس “ الذي صدر عن نادي المدينة المنورة عام 2014 من تأليف الرحالة والأديب السعودي محمد بن ناصر العبودي (1345هـ/1926م - 1428هـ/2007م)، وهو أحد أعمال العبودي البارزة في أدب الرحلات. يُعتبر العبودي من رواد هذا الفن في السعودية، حيث ألف أكثر من 160 كتابًا في أدب الرحلات، محققًا رقمًا قياسيًا في هذا المجال.يوثق الكتاب رحلة العبودي إلى الأندلس (إسبانيا)، حيث يركز على استكشاف التراث الإسلامي في المنطقة، مثل قصر الحمراء في غرناطة، ومسجد قرطبة، ومعالم إشبيلية. يمزج العبودي بين الوصف الجغرافي والتاريخي والانطباعات الشخصية، معبرًا عن إعجابه بالحضارة الأندلسية وتأثيرها الثقافي العميق. ويحتوي كتاب (أيام أندلسية) للمؤلف خليل الفزيع على سبعة فصول ومقدمة بقلم المؤلف، وتقديم بقلم الأستاذ محمد حمد الصويغ يبدأ الفصل الأول بالتعريف بالأندلس تحت عنوان (إقليم الأندلس) ويصفه ب(الفردوس المفقود) مشيرا إلى حجم التواجد العربي الكثيف فيه، وكذلك الاستثمارات العربية وإلى سهولة التواصل بينه وبين طنجة وتطوان و سبتة المغربية والجزيرة الخضراء ومالقة في الأندلس ، ويشير إلى جبل طارق ، ويسترجع شطراً من تاريخ الأندلس وشيوع فن الموشحات وقرب الأنغام الأندلسية من الأذن العربية ، ويتحدث عن سهولة التواصل بين مدن الأندلس والمدن الأوروبية وعن حفاوة الإسبان بالسّياح الأجانب ، ويسترجع تاريخ سقوط غرناطة بيد الملك( فيرناندو) و الملكة (إيزابيلا) ويستذكر ما فعله نصارى الأندلس بالمسلمين في تلك البلاد حيث أحرقوا منهم كثيراً ، وتحدث عن مرحلة الفتح على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير، وقد وصف مرحلة الفتح وصفاً مستفيضاً ونقل عن المقرّي في كتابه (نفح الطيب) تفاصيل نكبة المسلمين على يد القوط وإجبارهم على الهجرة إلى المغرب ، وتحدّث عن واقع السياحة و التنقل الميسور بين مدن الساحل و المدن الأخرى الحافلة بالمساجد على النمط الأندلسي، وبدا هذا الفصل وما تلاه من فصول تعريفاَ بحقائق تاريخيّة و معاصرة عن الأندلس دون أن يشير إلى رحلته أو رؤيته الذاتية ؛ بل بدا وكأنه يتحدّث بلسان الباحث الذي يدلي بحقائق موضوعيّة لا علاقة لها بالتجربة الذاتية بوصفها عملاً سرديّاً إبداعياً ؛ بل عمد إلى تحرّي الحقائق وتدوين العارف بها الواثق منها ما يومئ على نحو ضمني إلى معرفته بها معرفة وثيقة دون أن يحيل إلى مرجع ما . ويستمر على هذا النهج متحدّثا بلسان المؤرخ مُدليا بحقائق تاريخية ومعاصرة في فصول الكتاب المعنونة (ساحل الشمس ) و هو الساحل الجنوبي الممتد عبر مجموعة ساحلية من أجمل المدن مستشهداً بأبيات للشاعر ابن زيدون في الجزيرة الخضراء ، ويتحدث عن الاختلاف في تسمية تلك المدن نتيجة تعاقب الحضارات عليها ، وهو لا يتحدث عنها وعن معالمها بضمير المتكلم ؛ بل بضمير الغائب ، وعن الفن الشائع في (أنا ماريا) وهو (فلامنكو) وعن أجزائها الأربعة وعن اقتباسها من أصول يونانية وهندية وفارسية و عربية ، وهو فنٌّ راقص نتاج مرحلة نشط فيها شعراء التروبادور الذين نهلوا من معين الموشحات و السير الشعبية العربية، وقد اورد المؤلف أشعاراَ لعبد الرحمن الداخل وابن زيدون الذي مزج بين جمال ولّادة بنت المستكفي و جمال الطبيعة ، واستشهد بأبيات لابن خفاجة في تصوير جمال الطبيعة ، وهو يخاطب القارئ وكأنه مرشد سياحي إذ يقول “ وفي ماريبيا يمكنك أن تزور متحف الفن الإسباني الحديث؛ أما إذا كنت من هواة المشي ...” ويفرد لقرطبة عاصمة الخلافة الإسلامية فصلاً خاصا متحدثا عن تاريخها منذ الفتح ، وعما جاء في كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم عما آلت إ ليه الأمور فيها ، وتحدث عن غرناطة وهيام ابن زيدون بولادة بنت المستكفي ، وما قاله عنها ابن بسّام وما كتبته على أطراف ثوبها من شعر ،وعن منافسته في حبها الوزير ابن عبدون واقتبس أبياتاً من قصيدة ابن زيدون التي قالها في ولادة (أضحى التنائي) وما قالته ولادة من شعر كتبنه على طرازها الأيمن بالذهب ، ورساله الشعرية إليه حين رأته يميل لجاريتها (لو كنت تنصف في الهوى) ويواصل حديثه كما لو أنه مرشد سياحي في الفصل المعنون (الرحيل إلى أشبيلية) إذ يقول : “إذا كنت من هواة السفر بالحافلات فيمكنك الانضمام إلى أحد الأفواج السياحية” ثم يأسى لما آلت إليه الأندلس التي كانت ملء السمع و البصر مشيرا إلى فن الموشحات الأندلسي متحدّثاً عن اشبيلية و تألّقها في عهد بني العباد ، ووصف معالمها (برج الذهب وسفينة فاسكو دي غاما وقبر كريستوفر كولومبوس ) وتحدث عن المعتمد بن عباد أكثر ملوك الطوائف شهرةً وأمير طليطلة المأمون بن ذي النون وتحالفه مع ملك قشتالة، وما قامت به دولة (المرابطين ) إثر هزيمتها للمعتمد بن عباد بعد مقتل ولديه وأسره ؛ حيث مات معدماً فقيرا في أغمات وأورد قصيدته الرائية : غريب بأرض المغربين أسير سيبكي عليه منبر وسرير وقصيدته الأخرى: فيما مضى كنت بالأيام مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا ومضى في الكتاب على هذه الشاكلة فعقد فصلاَ عن غرناطة، ثم انتهى إلى فصل ناقش فيه نسبة فن الموشح إلى الشرق والغرب فيما يشبه الدراسة العلمية لهذه المسألة. وكانت الفكرة السائدة أن الموشح فنٌ أندلسيٌّ خالص غير أن النص المنسوب إلى عبد الله بن المعتز أثار جدلاً واسعاً حول كونه مشرقيّاً عباسيّاً ، وفي الوقت ذاته فإن هذا النص ينسب إلى الشاعر الأندلسي أبي بكر بن زهر الملقّب بالحفيد ؛ حيث أورد المؤلف آراء مختلف الباحثين حول هذا الموضوع ، وذكر عدد أصحاب الموشحات الذي تجاوز سبعين وشّاحاً وأكثر من أربعمئة وسبعة وأربعين موشّحاً ، وناقش مختلف الآراء حول نشأة الموشحات ، وانتهى إلى ترجيح رأي غالبية الباحثين حول نسبة نشأة هذا الفن إلى الأندلس ، وأنهى الكتاب بتفنيد الدعاوى الباطلة حول عدد من القضايا تحت عنوان (مواقف وعبر) ختم به فصول الكتاب ، مثل الزعم بأن خلافاً شجر بين طارق بن زياد و موسى بن نصير, وكذلك الزعم بأن انغماس ملوك وأمراء الأندلس في الخلاعة و المجون سبب ضياع الأندلس ، وزعم بعض المستشرقين بأن زواج بعض الولاة ببعض الإسبانيات كان استجابة لنزواتهم الشخصية وأشار إلى أن مشكلة المسلمين الحقيقية في الأندلس هي الخلافات و العصبيّة القبلية ؛ وقد أورد بعض ما قيل من شعر في رثاء الأندلس لابن عبدون و مطلعها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح و الصور وكذلك ماقاله أبو البقاء الرندي: لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغرّ بطيب العيش إنسان وينعى على العرب في ختام كتابه أنهم لم يتّعظوا من الماضي وهم يمرون في حاضرهم بفترة حرجة من المآسي والانكسارات بسبب الاعتداءات الإسرائيلية. و من المعروف أن لغة أدب الرحلات وصفية دقيقة غنية بالتفاصيل لرسم صورة حسيّة للمكان والناس والعادات، تميل إلى التصوير الحسّي والبصري والسمعي لتقريب القارئ من المشهد، وهذا ما نلاحظه في هذا الكتاب ، والرحالة هو البطل والراوي في الوقت ذاته، ينقل التجربة من منظوره الشخصي والتركيز على الانطباعات والمشاعر الفردية رغم أن الرحلة قائمة على تجربة حقيقية، وفي هذا الكتاب نلحظ نهج الباحث الذي يختفي فيه ضمير الأنا ؛ فالرؤية فيه موضوعية ، وقد حرص الكاتب على ذكر تواريخ وأسماء المدن والمواقع وعمل على أن يُظهر معالم الطبيعة والعمران والآثار والمؤسسات بأسلوب توثيقي وقد تتضمن معلومات متعددة: جغرافية، تاريخية، دينية، اجتماعية، لغوية. لقد بدا واضحاً أن الكتاب غلب عليه أسلوب الباحث المدقق والأديب الذي ينتقي عبارته ويتحرى الجمال والأناقة في صياغة عباراته، فهو روائي معروف وقاص ّ مدهش من جيل الروّاد المؤصّلين.