رحلة السعودية من الذهب الأسود إلى الكعكة الصفراء.

نشهد في مسيرة المملكة العربية السعودية عهداً مجيداً من الإنجازات التي جعلت من «الذهب الأسود» منطلقاً لنهضة شاملة، ومن «الكعكة الصفراء» عنواناً لأنموذج تطلّعي بمقدرات العلم والتقنية، يملأنا فخراً بما حققناه ويشعل فينا عزيمةً للسير نحو آفاق أوسع. منذ اكتشاف بئر الدمام رقم 7 عام 1938، وضع السعوديون قواعد دولةٍ حديثةٍ انطلقت على أجنحة النفط، فكانت «أرامكو السعودية» خير شاهدٍ على عبقرية التخطيط و حسن الإدارة. لم يقتصر أثر النفط على ثراء الخزينة فحسب، بل اختصر لنا الآفاق، و حقق القفزات العمرانية الهائلة: شبكات الطرق الفائقة، و المدن الجديدة، و الموانئ العالمية، و ناطحات السحاب التي باتت تزين سماء الرياض و جدة والدمام. لقد حوّل «الذهب الأسود» الصحراء إلى عاصمةٍ للاقتصاد، و أسس لنهضةٍ تحتفي بالإنسان و تعلّم الأجيال قيمة الازدهار المشترك. و في قلب هذا الانطلاق، استُثمِر العائد النفطي في بناء مرافق التعليم و الصحة، فما من طفلٍ في باديةٍ أو حواضرَ إلا وقد وجد لنفسه فرصةً للتعلّم على أرقى المستويات. و تجلّت الرؤية الحكيمة في شبكة الجامعات و المستشفيات الحديثة التي غدت مقصد العلماء و الباحثين، و دربت آلاف الكفاءات السعودية على العلم و المعرفة، حتى بات الشباب السعودي اليوم ركيزةً أساسيةً في مختلف القطاعات الاقتصادية والتقنية. ثم جاء عصر «رؤية المملكة 2030» ليؤكّد أنّ السعودية لا تكتفي بمكانتها الأولى في النفط، بل تطمح لأن تكون منارةً للتنوع و الابتكار. في هذه الرؤية الحلم، تجلت روح الفخر الوطني حين رُسمت خارطةُ المستقبل: من الطموح في الطاقة المتجددة، إلى الريادة في السياحة العالمية، فالتنافس في الصناعات الرقمية، و التوسع في المشروعات الكبرى كنيوم و مشروع البحر الأحمر. هذه المشاريع التي أثبتت قدرة المملكة على تحويل الصحراء إلى مراكز جذبٍ سياحي و استثماري يضاهي كبريات الدول العظمى. و على ذات الدرب، خطت السعودية خطواتٍ جبارة نحو الطاقة النووية السلمية، فكانت «الكعكة الصفراء» الخيار الواعد. هذه المادة الخام من أكسيد اليورانيوم التي تُعدّ الباب إلى طاقة نظيفة و مستدامة، صارت رمزاً لعزمٍ لا يلين في تحقيق الأمن الطاقي و تقليل الانبعاثات الكربونية. و من خلال مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية و المتجددة، انطلقت شراكات استراتيجية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، و جُهّزت المختبرات، و دُرّبت الكوادر السعودية على أعلى المعايير العالمية، حتى باتت المملكة مؤهلةً لتنفيذ محطات نووية تنتج مئات الميجاواط من الكهرباء. إن فخرنا اليوم ينبع من قدرتنا على الجمع بين تراثٍ عريقٍ و مستقبل عالمي، و رؤيةٍ عصريةٍ تُعلي من شأن العلم و التكنولوجيا، فها هي جامعاتنا تضم برامج في تخصيب اليورانيوم و التحكم بالإشعاعات، و ها هي مراكز الأبحاث تُولد أفكاراً تُترجَم إلى واقع ملموس. لقد أثبت السعوديون أنهم أهل للمسؤولية، يقودون مشاريع الطاقة النووية بحذرٍ يضمن سلامة الأجيال و استدامة الموارد. و لا يقتصر الأمر على الجانب التقني فحسب، بل يمتد إلى إبراز هويتنا الحضارية ، فبينما كانت أنظار العالم تتجه نحو بترولنا، حرصت المملكة على تعزيز مكانتها الروحية و الثقافية، فأضاءت الحرمين الشريفين بنظامٍ تقني ذكي، و استقبلت ضيوف الرحمن بأحدث وسائل الراحة والأمن و في الوقت ذاته تفتح أبوابها للسياح الذين يرغبون في استكشاف الآثار التاريخية و الطبيعة الخلّابة مؤكدةً أننا أمةٌ تجمع ما بين العراقة و الحداثة في لوحةٍ واحدةٍ تبهر الناظرين. إن رحلة السعودية من «الذهب الأسود» إلى «الكعكة الصفراء» ليست مجرد انتقالٍ من موردٍ إلى آخر، بل قصة فخرٍ تكتبها الأجيال بحروف من ذهب. قصةٌ تؤكد أنّ الثروة الحقيقية تكمن في إرادة الإنسان و علمه و عزيمته على صنع الغد، فنحن نقدّم للعالم نموذجاً فريداً لدولةٍ لا تنحصر في بئر نفطٍ أو محطة طاقة، بل تحتضن ضمن صياغتها المجيدة اقتصاداً متنوعاً و مجتمعاً مزدهراً. و في ختام هذه الرحلة، يحق لنا أن نرفع جباهنا عاليةً، ففخر القيادة و الوطن جمعاً ينير دروب المستقبل. و لعلّ من أروع ما حققناه هو دمج مفاتيح التقدم: النفط الذي صاغ معالم الحاضر، و النووي الذي يؤسس لغدٍ مشرقٍ و مستدام. هنيئاً للشعب السعودي بهذه المسيرة، و هنيئاً للعالم أنّه يصغي اليوم إلى فصلٍ جديدٍ في كتاب الحضارة، يرويها التاريخ بمداد العز والفخر.