
إِلَهَنا ما أَعدَلَك مَليكَ كُلِّ مَن مَلَك لَبَّيكَ قَد لَبَّيتُ لَك لَبَّيكَ إِنَّ الحَمدَ لَك وَالمُلكَ لا شَريكَ لَك ما خابَ عَبدٌ سَأَلَك أَنتَ لَهُ حَيثُ سَلَك لَولاكَ يا رَبُّ هَلَك*(1) في هذه الأيام المباركة، ننظر بعين الفخر والامتنان إلى ما حبانا الله به من وجود مكة المكرمة، مركز الكون ومهوى الأفئدة في بلادنا. هنا، حيث تلتقي الأمم من كل بقاع الأرض، نرى لوحة إبداعية من براعة التنظيم، وحسن التعامل، والأمان، والمشاعر الروحانية التي تغمر كل زائر. هذا المشهد الفريد يدفعنا إلى تأمل الحج بوصفه شعيرةً تتجاوز أبعاد الطقس والممارسة، لتغدو رحلةً وجودية كبرى تشكّل نقطة تحوّل لكل مسلم، ولكل حاجٍ على وجه الخصوص؛ إذ لا يخرج الإنسان من هذا النسك كما دخله، بل يعود محمّلًا بإدراك جديد للزمن، ولذاته، ولموقعه في هذا العالم. الحج في الأدب العربي الحديث: منظوران متقاطعان كان ولا يزال الحج موضوعًا ثابتًا ومنهلًا لا ينضب في الأدب العربي، سواء في الشعر أو النثر أو كتب الرحالة. وفي هذا المقال، أسعى إلى تسليط الضوء عليه كثيمة رمزية عميقة في عملين من السرديات الحديثة، حيث يشكّل الحج فيهما محورًا تتقاطع فيه التجربة الروحية مع السرد التاريخي واليومي. يتجلّى في كلا العملين تباينٌ لافت في ممارسة النسك بين المقيم والزائر، مما يُنتج معاني تتعلّق بالهوية، والانتماء، والذاكرة، والإحساس بالمكان، إضافة إلى الفروق الشعورية بين من يعيش الطقوس كل عام، ومن يزورها لأول مرة. هذان العملان هما روايتا(ميمونة) لمحمود تراوري، الصادرة عام 2002 عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، و) سقيفة الصفا (لحمزة بوقري، التي طُبعت عام 1983 عن دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع. يقدم كل منهما رؤية مغايرة للحج ومكة؛ الأولى تنطلق من منظور مهاجر أفريقي يصل حاجًا ثم يصبح مقيمًا، والثانية تُروى بعين مكّيٍ أصيل يشارك طقوس الحج من الداخل ويشهد تحولات مدينته عبر الزمن. الديار المقدسة بين الرحيل والمجاورة - حلم منشود وواقع معاش في رواية (ميمونة) لمحمود تراوري، يمثّل قرار الهجرة إلى الديار المقدسة للحج ومجاورة الحرم نقطة التحوّل التي ستغيّر مصير العائلة وحياتها. تقول الراوية: «حين جاء أبي إلى مكة مهاجرًا لمجاورة بيت الله، ما كنت موجودة. أمي كانت معه، تزوجها للتو، استأذن أمه مودّعًا، مخبرًا بأنه سيشهد الرحال للمقدسات، أما أبوه فقد حط قبله هناك، يوم أن حبا وبكى». *(2) يروي تراوري كيف يهاجر الحجيج في ميثاق مع الألم والصبر بغية الارتكان إلى شعيرتهم، والوصول إلى أرض الميعاد: مكة، التي قاسوا لأجلها أهوال السفر. لديهم هدف واحد تسبقه رحلة طويلة ومضنية. لا تحضر مكة في بداية العمل كمقام واضح التفاصيل، ولا يوجد شرح وافٍ لمعالمها وشوارعها وبيوتها – وإن تم ذكر ذلك في بعض المواضع لاحقا – إلا أن الديار المقدسة في هذا العمل تمثّل القبلة التي تُشدّ إليها الرحال، وعتبة التطهير الروحي التي تقف عندها أحلام الخلاص. فتصبح رمزًا للحلم، والأمل، والوعد بالراحة ولقاء الأحبة، بعد أزمنة الارتحال وصخب الشتات. يصف تراوري تجمع قوافل القادمين من قارة أخرى: «أعراق مختلفة يفصلهم ملح البحر عن بُغيتهم، وجدوا في العربية أداة تفاهم وتواصل، الدين يوحّدهم، والأشواق لمكة تزيدهم تآلفًا. كانوا دائمًا يهتفون: الدين الذي لا يوحّدنا لا حاجة لنا به». *(3) أما في رواية (سقيفة الصفا) لحمزة بوقري، فتبدو مكة كفضاء اجتماعي غني بالتفاصيل التي يعرفها المكيّون، بيوتها، أحياءها ومعالمها مثل: المعابدة، والزاهر، ومحبس الجن، وسوق العرب، وبالطبع جنبات الحرم المكي الشريف المجاور لهم، حيث يؤدون فروضهم بشكل اعتيادي. فيحدثنا عن صلاة السجدة التي اعتاد أهل مكة على تأديتها قبل الفجر «كانت صلاة الفجر في المسجد الحرام («أو الحرم») كما يسميه أهل مكة – وخاصة صلاة «السجدة» – فجر يوم الجمعة تمثل محفلًا روحيا هائلًا بالنسبة لي وللكثيرين ممن عاشوا تلك الفترة. ربّما كانت كذلك حتى اليوم بالنسبة لمن بقي من أهل مكة فيها. وكانت قمة النشوة أن يتمكن إنسان من أن يصل إلى الحرم قبل الأذان بساعة، أو بعض ساعة فيضع «سجادة» صلاته في الصف الأول أمام الكعبة. ثم ينهمك في صلاة تهجد أو في طواف، حتى يؤذن المؤذن. وقد كان ذلك كله يتم بشكل طبيعي، وبطريقة التوريث حيث يصحب الآباء أبناءهم إلى الحرم، قبل أن يراهقوا، ومن ثم يتعود أولئك على ما تعوّد عليه آباؤهم، ثم يعودون عليه من يليهم من الخلف.. وهكذا.»*(4) كما يحدثنا بطل العمل (مسفر) عن دراسته في الحرم ضمن سياق التعبير عن حبه للعلم والقراءة، فيبدو الجلوس في ظلال الكعبة للدرس طقسا روتينيا وجزءا من تنشئته يقول: «فاجأني ذات يوم أستاذنا طيب الذكر وبعد انتهاء حلقة الدرس في المسجد الحرام- فاجأني بشيء جديد لم أتوقعه، إذ أسر إلي بأنه سيعطي مجموعة صغيرة درسا خاصا في منزله بعد صلاة العشاء، حيث سيقرأ معهم كتابا جديدا في مادة أخرى غير النحو». *(5) أداء الشعائر، وطقوس الحج بين التجلي الفردي والتجربة الجمعية تحضر طقوس أداء مناسك الحج في العملين، لكن بشكل مختلف. في (ميمونة)، يشير تراوري إلى هذه الطقوس من خلال منظور شخصيّ تأمليّ؛ إذ لا يهتم الراوي بوصف الشعائر تفصيليًا، بل يُسلّط الضوء على أثرها النفسي. فتصف ميمونة لحظة وصولها إلى مكة مع والدتها ضمن قافلة الحجيج، وأصوات التلبية التي تسمعها لأول مره، في مشهد تمتزج فيه سعادة الوصول بشعور الغربة: «أناخت الجمال في التنعيم. ورأيت أمّي تفك حزامًا تحزّمت به، وأخرجت شيئًا نقدته دليل القافلة. وأخذ من كانوا معنا يلبّون: لبيك اللهم لبيك، في جماعية هادرة، أخافتني لأول وهلة. كل ما لم نتعوّده يخيف بداية. ثم استعذبت هذا الهتاف، ورحت أشاركهم وأهز أمي، فانطلقت ضحكتها التي ظننتها ماتت منذ شهر. غير أنها كانت مكسوّة بألم خفي. انخرطنا كلنا في التلبية، والوقت قريب من عصر، والشمس أخذت تتبعد من رؤوسنا، ورأيت أمي تجول ببصرها، كأنما تبحث عن وجه تعرفه، تلك الوجوه التي نشتاق إليها عندما يتفاقم ألمنا. بحثت بقوة ويقين. لكن لم يعرفها أحد...». *(6) أما في رواية بوقري، يبرز الحج كجزء من النسق الثقافي والاجتماعي المألوف لأهالي مكة، يقول بطل العمل بأنه: «ليس في مكة من أهلها وأسرها من لم يحج - تلك الأيام - عامًا بعد عام، فكلهم على الأغلب ذو علاقة بالحج والحجيج.. أو باعة.. أو حاجين لغرض الحج ذاته». *(7) وفي هذا السياق يذكر عادات أهل مكة اثناء موسم الحج وطريقة استقبالهم للحجيج، وكيف أن جزءًا من البيوت كان يُستعمل لإيواء ضيوف الرحمن، وإقامة الولائم لهم على مدى عدة ليالٍ، ويشير إلى أن كل أسرة في مكة تنتظر الحج كمناسبة سنوية لا تحمل بعدًا دينيًا فقط، بل فرصة للعمل والتجارة والتلاقح الثقافي مع الآخر. فيحدثنا عن مهام المطوفين في موسم الحج: « مهمة مسك الدفاتر وقيد الحجاج وأسمائهم وبواخرهم ثم الأمانات التي يتركونها...وأسماء المطلوب الحج عنهم والمبالغ المخصصة لذلك وهل تحتوي على أضحية أم لا؟ وكذلك قيد المصاريف العامة ابتداءً باستئجار الدور والخيام ومنازل منى وانتهاءً بالوجبات التي جرى التعارف على تقديمها للحجاج كاستضافة لهم ووليمة ليلة الوصول من جدة، وولائم أيام وليالي الحج..»*(8) وهنا نخلص إلى أن الروايتين تتفقان على ظهور الحج في سياق السرد كطقس ديني روحاني، لكن التجربة الشخصية تختلف اختلافًا كبيرًا بين بطليهما. حيث تستكشف «ميمونة» الحج كتجربة فردية روحية ذات أثر وجداني داخلي. بينما يمثل الحج لـ «مسفر» حدثا أو مناسبة اجتماعية، لكنه في الحالتين يساهم في تشكيل الشخصيات وفهم الذات، لكن من زاويتين مختلفتين: المادي الجمعي والنفسي الفردي. ختام الرحلة، ولادة الروح بينما يكتب تراوري من الخارج، بحثًا عن الانتماء، ويكتب بوقري من الداخل، متأملًا في تحولات مدينته، إلا أنهما يلتقيان عند نقطة واحدة: أن الحج ليس مجرد طقس ديني، بل تجربة إنسانية واجتماعية ووجودية. ولابد من الإشارة هنا إلى السياق الزمني للعملين، حيث تدور أحداث (سقيفة الصفا) في بدايات القرن العشرين، قبل التحولات الكبرى، وتروي (ميمونة) قصتها في أواخر القرن العشرين، حيث تظهر ملامح التنظيم والخدمات الممنهجة، إلا أن هذين السياقين الزمنيين يكشفان لنا الفارق الكبير بين مشقة الحج في الماضي، وبين ما نشهده في الحاضر من نعمة التيسير والأمن والسكينة التي تتيح للحاج التفرغ لأداء شعيرته براحة وطمأنينة. ختاما: تظل مكة، رغم تغيّر الزمن، مكانًا لصناعة الإنسان، ومحطةً للسمو الروحي الذي لا تحدّه لغة أو لون أو جنسية. (1) أبو نواس (2) (3)(6) ميمونة- محمود تراوري- دار المدى-2007 (4)(5)(7)(8) سقيفة الصفا- حمزة بوقري- دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع- 1983