أمراء الدولة في الأندلس ..

من حج منهم ومن أناب عنه الرسائل ؟

منذ أن تم فتح الأندلس عام 92/ 712م في عهد الدولة الأموية وحتى سقوطها في المشرق على يد العباسيين عام 132هـ / 750م لم يكن هناك قيود على أولى الأمر من الدولة الأموية بالأندلس لأداء فريضة الحج، وبدأت هذه القيود عندما سقطت الدولة الأموية في المشرق العربي. فعندما نجح العباسيون في إزاحة الأسرة الأموية من كرسي الخلافة بحث من بقي من هذه الأسرة عن مكان آخر لإحياء تراثهم التليد في الإدارة وشئون الحكم. نجح في ذلك عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك من سلخ الأندلس عن جسم الدولة العباسية وإنشاء إمارة أموية فيها سنة 138هـ وإحباط محاولات العباسيين في اسقاط هذا المشروع وإفشالها جميعاً، وهذا ما جعل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور 136- 158هـ يعترف بمقدرة خصمه والإشادة بمواهبه السياسية والإدارية، حتى أطلق عليه لقب صقر قريش مُعللا ذلك بأن عبدالرحمن شاد ملكاً عظيماً منفرداً بنفسه. جاء شريداً طريداً وحيداً، فدون الدواوين وجند الأجناد، ومصر الأمصار. وعلى الرغم من أن البيت الأموي لم يعد يشكل خطرا على العباسيين بعد اجتماع فلول الأمويين في الأندلس، إلاَّ أن الوحشة السياسية بينهما ظلت قائمة إلى نهاية الدولتين، وبسببها كان الأمويون يتحوطون على أنفسهم بالمشرق، بينما أحجم أمويو الأندلس عن المجيء أصلاً إلى المشرق. يقول ابن خلدون في مقدمته: “ولقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس”. والغالب أن ذلك اقتصر علي فترة التأسيس للحكم الأموي في الأندلس. فقد تمكن بعض أمويو الأندلس والكثير من الوزراء والفقهاء وأرباب المناصب العليا من أداء فريضة الحج بعد تلك الفترة من ذلك ما رواه ابن حزم في كتابه جمهرة أنساب العرب حين قال: “وحج محمد بن عبدالجبار بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الناصر، وكان مغرورا بنفسه، لأنه استطاع أن يضلل عنه عيون العباسيين”، كما أدي الكثير من الأمويون فريضة الحج منذ القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، مثل حبيب بن الوليد بن حبيب بن عبدالملك الذي حج أيام الأمير عبدالرحمن بن الحكم (206-238هـ) كما حج في الفترة ذاتها معاوية بن محمد بن هشام الذي حج عام 275هـ ثم عاد إلى الأندلس سالماً. كما حج عبدالملك بن محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن الناصر في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. ومن أصحاب المناصب العليا الذين خرجوا للحج خلال أوقات متفاوتة من العصر الأموي، عبد الله بن الأشعث قاضي اشبيلية فقد استأذن الأمير الحكم بن هشام (206-208هـ) فأذن له. وعبيد الله بن محمد بن أبي عبدة الذي تقلد عدة مناصب في عهد الأمير عبدالله بن محمد (175-300هـ) وكذلك الكاتب والوزير والقاضي موسي بن محمد بن زياد. ومن الطرائف أن الأمراء وأبنائهم كانوا يستأجرون من يحج عنهم ممن يثقون بدينهم وأمانتهم وصدق إخلاصهم، كما فعل الأمير محمد بن عبدالرحمن (238-273هـ) حينما طلب من أحد التجار الوافدين على الاندلس وهو محمد بن موسي الرازي أن يحج عنه. وكذلك فعل الحكم المستنصر بالله إذ طلب رجلاً عالماً زاهداً يحج عن والدته مقابل خمسمائة دينار. ويجب ان ننوه بأن الحج من الأندلس إلى الحجاز كان مفتوحاً على مصراعيه لكل العامة في كل العصور. أما عصر الطوائف في الأندلس، فهو عصر التمزق والتشتت والتفكيك إلى ممالك صغيرة- بلغت أحياناً فوق العشرين- غصت به الأندلس وكان سبباً في ذهابها، ولو بعد خمسه قرون. ويذكر التاريخ انه في أواسط القرن الثامن الهجري(الرابع عشر الميلادي) أخذت حساسية الشعور بخطر المصير تشتد لدى أهل غرناطة وحكامها، وكان من دلائل الشعور بهذا الخطر أنه لم يقم أحد من ملوك غرناطه بالسفر إلى المشرق العربي لأداء فريضة الحج، لأنهم كانوا يخشون أن يقع المكروه في غيابهم، خاصة بعد أن زاد نفوذ الأسبان حولهم وتحينهم الفرصة للهجوم على غرناطة والاستيلاء عليها، ومن ثم فقد استحدثوا فكرة الاستنابة بتوجيه الرسائل الملوكية إلى الضريح النبوي الشريف، ومن أشهر هذه الرسائل رسالتان كتبهما الوزير ابن الخطيب (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن علي أحمد السلماني اللوشي، المشهور بلسان الدين ابن الخطيب مؤرخ ووزير وشاعر أندلسي كبير713-776هـ/ 1313-1374م، صاحب الكتاب الشهير: الإحاطة في أخبار غرناطة، وابن الخطيب كان معاصراً وصديقاً ومثيلاً لابن خلدون ت: 808هـ) إلى التربة النبوية. الأولى كتبها عن السلطان يوسف أبي الحجاج الذي حكم من سنة 733 إلى سنة 753هـ والثانية عن ولده السلطان محمد الغني بالله الذي حكم من سنة 753 إلى سنة 793هـ ، ومع كل رسالة قصيدة مديح نبوي. ومع كل رسالة كانت ترسل مصاحف مذهبة فاخرة يكتبها السلطان، أو الأمير بنفسه، وتوضع في أطار مذهب فاخر، وكان من ذلك المصحف الشهير الذي كتبه السلطان أبو الحسن المريني (علي بن عثمان بن يعقوب المريني ولد عام 697هـ عقدت له البيعة عام 731هـ، اجتاز البحر 57 مرة من أجل الذود والدفاع عما تبقى من معاقل المسلمين بالأندلس ولمساندة بني الأحمر في غرناطة) أرسله مع رسالة إلى حرم التربة النبوية عن طريق مصر في عهد السلطان الناصر قلاوون سنة 739هـ - 1338م. وبالعودة إلى رسالتي ابن الخطيب نجد أن الرسالتين آيتان في البلاغة، ورقة التوسل النبوي، الذي يذيب دموع العين تأثراً وخشوعاً. - في الرسالة الأولى يعتذر السلطان يوسف أبو الحجاج في القصيدة التي نظمها عنه ابن الخطيب إلى ضجيع التربة المقدسة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان من نظمها هذه الأبيات: عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا جلالقة الثغر الغريب ورومه أجاهد منهم في سبيلك أمة هي البحر يعيي أمرها من يرومه فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى لريع حماه واستبيح حريمه ولما نأت دارى واعذر مطمعي وأقلقني شوق يشب جحيمه بعثت بها جهد المقل معولا على مجدك الأعلى الذي جل خيمه. ومن نثر الرسالة: “أستنبت رقعتي هذه إليك، لتطير بجناح خافق، وتشعر نيتي التي تصحبها برفق مرافق، ليؤدي عن عبدك ويبلغ، ويعفر الخد في تربك ويمرغ، ويطيب بريا معاهدك الطاهرة وبيوتك، ويقف وقوف الخشوع والخضوع تجاه تابوتك، ويقول بلسان التملق، ارحم غربتي وانقطاعي، وتغمد بطولك قصر باعي، وقابل بالقبول نيابتي، وعجل بالرضا إجابتي. هذه يا رسول الله وسيلة من بعدت داره، وشط مزاره، ولم يجعل بيده اختياره، فإن لم تكن هذه للقبول أهلاً ، فأنت للإغضاء والسمح أهل، وان كانت ألفاظها وعرة، فجنابك للقاصدين سهل. وإذا كان الحب يتوارث، كما أخبرت، والعروق تدسس حسبما إليه أشرت، فلي بانتسابي إلى سعيد عميد أنصارك مزية، ووسيلة أثيرة حفية، فلا تنسني ومن بهذه الجزيرة التي افتتحت بسيف كلمتك على أيدي خير أمتك”. - والرسالة الثانية في المديح والاستعطاف النبوي، وجهها ابن الخطيب إلى التربة المقدسة عن مليكه السلطان الغني بالله، ابتدئها بقصيدة نبوية عصماء منها: دعاك بأقصى المغربين غريب وأنت على بعد المزار قريب مدل بأسباب الرجاء وطرفه غضيض على حكم الحياء مريب يكلف قرص البدر حمل تحية إذا ما هوى والشمس حين تغيب ومن نثر الرسالة: “فقد سارت الركاب إليك، ولم يقض مسير، وحومت الأسراب عليك والجناح كسير، ووعدت الأملاك فأخلفت، وحلفت العزائم فلم تف بما حلفت، ولم تحصل النفس من تلك المعاهد ذات الشرف الأمثل، إلاّّ على التمثيل، ولا من المعالم الملتمسة التنوير، إلاَّ على التصوير، مهبط وحي الله، ومنزل أسمائه، ومتردد ملائكة سمائه، ومرافق أوليائه، وملاحد أصحاب خيرة أنبيائه، رزقني الله الرضا بقضائه على جاحم البعد ورمضايه”. ثم يقول الخطيب بلسان سلطانه: “واستنبت هذه الرسالة مانحة بحر الندى الممنوع، ومفاتحته بابداء الهدى بفتح الفتوح، وقارعة المظاهر والصروح، وباقية الرحل بمنزل المليكه والروح، لتمد إلى قلبك يد استمناح، وتطير إليك من الشوق الحثيث بجناح، ثم تقف موقف الانكسار، فان كان تجرها آمنا من الخسار، وتقدم بأنس، وبحجم بوحشة الغربة، ويحبس لطول الغيبة، وتقول ارحم بُعد دارى، وضعف اقتداري، وانتزاح أوطاني، وعلق أعطاني، وقلة زادي، وفراغ مزادي، وتقبل وسيلة اعترافي، وتغمد صفوة اقترافي، وعجل بالرضا انصراف تحملي لا انصرافي”. والرسالة طويلة ضمنها ابن الخطيب قصص الغزوات الناجحة التي قام بها سلطانه ضد مدن جيان وأبده وقرطبة واطريرة وحصن أشر، وما فتح الله به على المسلمين من هذه المدن بعد أن انتزعها ملوك النصارى من الأندلس المسلمة. - الغرض من الرسائل الغرناطية إلى مقام الحضرة الشريفة. الحقيقة أن الرسائل الغرناطية إلى مقام الحضرة الشريفة بالمدينة المنورة كانت ترمى إلى غرض هام، فقد كانت تقوم بالنسبة لمرسليها مقام أداء الزيارة (العمرة)، وقضاء فريضة الحج ذاتها، وذلك لعجز مرسليها عن القيام بالرحلة الشخصية إلى المشرق. فقد كان الشعور بالقصور عن أداء الرحلة المشرقية، إنما هو الشعور بالخوف من وقوع المصير المحزن، الذي لبثت الممالك الأندلسية تترقبه وتخشاه دائما خلال مراحل حياتها الطويلة حتى وقع.