
منذ أمدٍ بعيد، تبوّأ ماء زمزم مكانة خاصة كأفضل ماء على وجه الأرض، يحمل في طياته قصة كرم إلهي ودفء أمومةٍ وسعي أجيال نحو القداسة. إنه ماء نقي، صافٍ طاهر، ليس له لون أو رائحة، خالٍ من الجراثيم، مثبت بصفاء تكوينه الفريد في دراسات كيميائية وتحاليل متقدمة. حملت تلك المياه قدسية ومعجزة بظهورها لإسماعيل (عليه السلام) وأمه السيدة هاجر، وكل قطرة من هذا الماء تحمل تاريخًا روحانيًا عميقًا، وكأنها تروي قصص السقاية التي تجذرت عبر الزمن، بدءًا من رحلة إسماعيل في مكة، وصولًا إلى عهد رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم)، حيث صارت زمزم موئلاً للحجاج ومصدرًا للبركة. تاريخ البئر يعود اسم زمزم إلى صوت الزمزمة، وهو الصوت الذي يصدره الماء أو يخرجه أثناء تدفقه، وتقول بعض الروايات أن سبب التسمية يعود إلى أن الفرس كانت تحج إلى هذه المنطقة في القدم، فتزمزم عندها، والزمزمة هنا تشير إلى صوت تخرجه خياشيم الخيل عند شربها الماء، ويُقال أيضا أن سبب التسمية هو أنه لما خرج الماء جعلت السيدة هاجر تحوط عليه وتقول: «زمي زمي»، وتعرف مياه زمزم بعدة أسماء أخرى، منها: «طيبة» لأنها مخصصة للطيبين والطيبات، «برة وعصمة» لأنها للأبرار، «مضنونة» لأنها محفوظة للمؤمنين، «سيدة» لأنها سيدة جميع المياه، «معذبة» لأن المؤمنين يستعذبونها كأنها عذوبة الحليب، «سالمة» لأنها لا تقبل الغش، «مباركة» لأنها لا تنفد، «كافية» لأنها تغني عن الطعام، و»عافية» لأن من يشربها لا يضعف، وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان العديد من الأسماء الأخرى؛ منها: زُمازمُ، وركضة جبرائيل، وهزمة الملك، والشباعة، وتكتمُ، وشفاءُ سُقم، وطعامُ طعم، وشراب الأبرار، وطعام الأبرار. ويعود ظهور ماء زمزم إلى سقاية إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام)، حين كان طفلًا، إذ تفجر الماء له بكرم من الله عندما قال إبراهيم (عليه السلام): « رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ»، وترك إبراهيم زوجته هاجر وطفله إسماعيل في مكة ومعهما قليل من الماء والتمر، وبعد نفاد المؤونة واشتداد العطش بإسماعيل، جالت هاجر بين الصفا والمروة في سعي مضني بحثًا عن ماء أو أحد ينقذ طفلها، حتى سمعت صوتًا عند إسماعيل، ولما اقتربت منه، وجدت الماء ينبع من تحت قدميه، فجعلت تجمعه في قربة، ولولا أنها فعلت ذلك لكان عينًا معينًا او نهرًا، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث قال: «يرحم الله أم إسماعيل، لولا أنها عجلت لكان زمزم عينًا معينًا». ووفقًا للمصادر التاريخية، فإن وصول إسماعيل إلى مكة وظهور زمزم يرجع إلى نحو 1910 عام قبل الميلاد، مما يعني أن هذه المياه المباركة وُجدت منذ نحو 4 آلاف سنة. مع تكاثر القبائل واستيطان مكة المكرمة، شحَّ ماء زمزم وانطوى في جوف الأرض، تاركًا بصمته في ذاكرة المكان، لكن مع تطور مكة وازدهار تجارتها بفضل الكعبة المشرفة وموقعها الجغرافي المميز، عاد زمزم للظهور مجددًا على يد عبدالمطلب بن هاشم، الذي استجاب لرؤيا في المنام فحفر البئر المبارك. ومنذئذ، جعل عبدالمطلب من بئر زمزم محطة رئيسة لسقيا الحجاج؛ فكان يجمع الإبل ويسقي لبنها الممزوج بالعسل عند زمزم، ويدفع لهم ماء الزبيب الذي يخفف من قوة مذاق الماء الأصلي في ذلك الزمان، ولما وافته المنية تولى العباس بن عبدالمطلب السقاية بعده، حتى جاء الفتح، فقبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) السقاية من العباس، وأعاد له حق سقيا الحجاج. وفي حجة الوداع وقف النبي عند بئر زمزم ودعا بدلو مملوء من الماء فتوضأ به، لكنه ترك نزع الماء من البئر لأهل السقاية من بني عبدالمطلب، تقديرًا لحقهم ولئلا يُضايقهم أحد على هذه السقاية الخاصة بهم، رغم كونه (صلى الله عليه وسلم) من نسل عبدالمطلب، وكانت المياه تُصب في أحواض متعددة، وتحت قبتين إحداهما قبة الشرب المنسوبة للعباس، والتي تضمّ القلال المعروفة بالدوارق ليُترك فيها ماء زمزم حتى يبرد، وقد أزيلت القباب في بدء ولاية أمير مكة السابق الشريف عون الرفيق وشيخ الحرم عثمان نوري باشا وسبب ذلك أنه دخل سيل عظيم للمسجد الحرام وأتلف كثيرًا من الكتب والأشياء التي بها، وتظل مياه زمزم حتى يومنا هذا منبع بركة وعطاء. نبع البركة يقع بئر زمزم في قلب الحرم المكي بالقرب من الكعبة المشرفة، وتحديدًا تحت سطح المطاف بعمق يبلغ 1.56 متر، وُضع حجر مستدير يحمل نقش «بئر زمزم» ليشير إلى موقعها، متعامدًا مع فتحة البئر في باطن الأرض خلف مقام إبراهيم، والبئر مقسمة إلى قسمين رئيسيين: قسم مبني يبلغ عمقه 12.80 مترًا من فتحة البئر، وقسم محفور في صخر الجبل بطول 17.20 مترًا، ليصل عمق البئر الكامل إلى 30 مترًا، ومستوى الماء يقع على بعد 4 أمتار من فتحة البئر، بينما عيون الماء التي تغذيها تأتي من عمق 13 مترًا، وهناك 3 عيون تاريخية تغذي زمزم؛ عين قرب الركن الأسود، وعين قرب جبل أبي قبيس والصفا، وعين قرب المروة، أما التحديثات الحديثة التي أُجريت في عام 1400 هـ، فقد أظهرت مصادر رئيسية للمياه: فتحة رئيسية باتجاه الكعبة يبلغ طولها 45 سم، وأخرى بطول 70 سم تتجه نحو المكبرية. حظيت بئر زمزم باهتمام متواصل من القيادة السعـــــوديــة الرشيدة، حيث شهدت العديد من التحسينات ضمن توسعة المطاف في عام 1377 هـ، حيث أُعيد تصميمها تمت إزالة مبنى زمزم ضمن مشروع توسعة المطاف، ونُقل مدخل البئر إلى أسفل صحن المطاف تسهيلاً لحركة الطائفين، ثم أُزيل المدخل كليًا في التوسعة الأخيرة للمسجد الحرام، واليوم تتوزع مجمعات مياه زمزم المبردة في مختلف أرجاء المسجد الحرام لتوفر للحجاج والمصلين مياه زمزم بكل يسر وسهولة، مع البرادات المنتشرة في كافة جنبات الحرم، كما شهدت بئر زمزم أكبر عملية تنظيف شاملة عام 1400هـ، بأمر من الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز، وذلك بعد حادثة اقتحام الحرم ورمي الجثث في البئر، وقاد هذه العملية المهندس يحيى كوشك بمشاركة غواصين، حيث قام الفريق بعملية تنظيف دقيقة وشاملة للبئر. فوائـد ومنافـع يحمل ماء زمزم في خصائصه البركة والقدسية التي منحها الله عز وجل له، وهو ماء له فوائد متعددة سواء من الناحية الروحية أو الجسدية، ما يجعله موضوع اهتمام المسلمين منذ الأزل، ومن أبرز هذه الفوائد والمنافع: * فائدة روحية عظيمة: أولى فوائد ماء زمزم ترتبط بالروحانية، إذ يحمل أهمية دينية خاصة للمسلمين، فهو مرتبط بسعي السيدة هاجر بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء لابنها إسماعيل، وعندما فجر الله زمزم تحت قدمي إسماعيل، أصبح الماء رمزًا للرحمة والكرم الإلهي، ويعد شرب ماء زمزم واغتسال المسلمين به في الحرم الشريف جزءًا من شعائر الحج والعمرة، كما يعزز الصحة النفسية ويمنح الراحة والطمأنينة. * ماء طاهر نقي: ماء زمزم يمتاز بنقائه وصفائه، حيث أظهرت التحليلات الكيميائية أنه ماء خالٍ من الشوائب والملوثات، ما يجعله من أكثر المياه أمانًا للشرب، ويختلف ماء زمزم في تركيبته الكيميائية عن المياه الأخرى؛ فهو غني بالمعادن الأساسية مثل الكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم، مما يسهم في تزويد الجسم بمغذيات مفيدة تعزز الصحة العامة. * فوائد صحية متنوعة: تعد الفوائد الصحية لماء زمزم محور اهتمام الكثير من الباحثين، فقد أظهرت الدراسات أن لماء زمزم تأثيرات إيجابية على الجسم البشري؛ منها: دعم الجهاز المناعي وذلك عبر المعادن الموجودة في ماء زمزم مما يساعد الجسم في محاربة الأمراض، كما يسهم ماء زمزم في تحسين عملية الهضم وتقليل مشاكل الجهاز الهضمي، حيث يُعتقد أنه يساعد في معادلة أحماض المعدة، كما يساعد ماء زمزم في ترطيب الجسم بشكل فعال، وخاصة في المناخ الحار، إذ يحتفظ الجسم بالرطوبة لفترة أطول، كما يرفع مستوى النشاط والطاقة. * شفاء وعلاج: يحظى ماء زمزم بمكانة خاصة من الناحية العلاجية، إذ يُعتقد أن له تأثيرات مهدئة للروح والجسد، ولطالما استخدمه المسلمون كجزء من العلاج، حيث يُستعمل للاستشفاء من الأمراض البدنية والروحانية على حد سواء، وقد ورد عن الرسول قوله: «ماء زمزم لما شُرِب له»، مما يدل على إمكانية شربه بغرض الشفاء أو تحقيق نية معينة كالصحة أو النجاح أو الراحة النفسية. مصدر إلهـام تعدّ بئر زمزم وماؤها المبارك مصدر إلهام خصب للأدباء والفقهاء والمؤرخين على مر العصور؛ فقد نسجوا من سيرتها مؤلفات، وخصّوها بكتابات تبرز ما لها من فضائل وقدسية، فمن هذا الإرث الروحي والتاريخي، نمت مجموعة من المؤلفات تتناول فضائل زمزم وتاريخها وأثرها في حياة المسلمين، من أبرزها نجد كتاب «جزء فيه جواب عن حال الحديث المشهور (ماء زمزم لما شرب له)» للحافظ ابن حجر العسقلاني، و»الجوهر المنظم في فضائل ماء زمزم» لأحمد بن آق شمس الدين المكي، و»الإعلام الملتزم بفضائل زمزم» لأحمد بن علي الغزي الأزهري، الذي يغوص في فضائل هذا الماء المبارك، وكتاب «زمزم طعام طعم وشفاء سقم» ليحيى كوشك، الذي يعرض فيه تجربة شخصية وغنية حول مآثر زمزم، و»التزام ما لا يلزم فيما ورد في ماء زمزم» لمحمد بن علي بن طولون، و»نشر الأنفاس في فضائل زمزم وسقاية العباس» لخليفة بن أبي الفرج الزمزمي المكي، حيث تظهر قوة ارتباط العلماء الروحي ببئر زمزم وعطائها، ولا شك أن هذا الكم من المؤلفات يبرز حجم الإلهام الذي ولّدته بئر زمزم في قلوب الأدباء والمفكرين المسلمين، مما جعلها محورًا غنيًا بالدراسات والأبحاث التي تواصلت عبر الأجيال، مؤرخةً معاني العطاء والكرم الإلهي المستمر. ديمومة العطاء من عجائب ماء زمزم أنه لا ينفد رغم مرور آلاف السنين على استخدامه بكميات كبيرة خلال مواسم الحج والعمرة، وقد أثبتت الدراسات الاستقصائية الحديثة أن بئر زمزم يستمر في التدفق بمعدل ثابت، ويظل قادرًا على تلبية احتياجات الحجاج والمعتمرين سنويًا، وهو ما يعتبر أحد المعجزات التي حباه الله لهذه البئر المباركة، ومنذ تأسيس المملكة تسعى القيادة الرشيدة جاهدة للحفاظ على هذا الإرث الديني، وتوفير ماء زمزم للحجاج والمعتمرين والزوار بأعلى معايير السلامة والنظافة، في ظل التطورات التي تشهدها المشاعر المقدسة، إذ تم تطوير أنظمة خاصة لتنقيته وتزويده بالوسائل اللازمة لضمان استمرار صفائه وخلوه من الشوائب والملوثات، كما تشمل جهود المملكة تحسين بنية بئر زمزم وتوسيع مساحاته مع الحفاظ على طابعه التاريخي، فعند توسعة المسجد الحرام وتنفيذ مشاريع الحرم، وضعت المملكة خطة دقيقة لتطوير بئر زمزم دون المساس بجوهره التاريخي. كما عملت الحكومات السعودية المتعاقبة منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز على وضع آليات متقدمة تتيح توفير ماء زمزم للزوار والحجاج بشكل ميسر ومريح، وأنشأت إدارة سقيا زمزم التي تشرف على تعبئة مياه زمزم وتوزيعها في كافة أنحاء الحرم، إضافة إلى نشر صنابير شرب مياه زمزم المبردة، وتوزيع عبوات زمزم الجاهزة في نقاط مخصصة، مما يسهم في توفير الماء بسهولة وسرعة لجميع الزائرين، ويعدّ مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لسقيا زمزم أحد المشاريع الرائدة التي تديرها المملكة لضمان توفير مياه زمزم وتوزيعها، حيث يضم المشروع مرافق للتعبئة والتغليف ويوزع عبوات المياه يوميًا، كما يتم نقل مياه زمزم إلى خزانات زمزم بالمسجد النبوي في المدينة المنورة عن طريق صهاريج مجهزة بمواصفات خاصة لحماية المياه من أي مؤثرات، بمعدل 120 طنًا يوميًا، ويرتفع في المواسم إلى 250 طنًا، يقدم ماء زمزم في حافظات معقمة ومبردة تصل إلى 7 آلاف حافظة مياه توزع داخل المسجد النبوي وسطحه وساحاته، إضافة إلى نوافير الشرب الموزعة في المسجد النبوي والمرافق المحيطة به. كما تدعم المملكة الدراسات العلمية والبحوث حول خصائص ماء زمزم وأهميته، وقد أنشأت مراكز بحثية تهدف إلى دراسة تركيبته وفوائده الصحية، كما شجعت الجامعات والمؤسسات البحثية على دراسة تركيب ماء زمزم ونقائه، في إطار توجه القيادة نحو دعم المعرفة العلمية وإبراز مكانة ماء زمزم عالميًا، كما تأخذ القيادة السعودية بعين الاعتبار استدامة الموارد المائية والبيئية في إدارة مياه زمزم، وتعمل على استخدام أحدث تقنيات ترشيد المياه وتدويرها للحفاظ على الثروات الطبيعية وضمان استمرارية تدفق ماء زمزم للأجيال القادمة، حيث حرصت المملكة على توظيف أنظمة تحافظ على تدفق المياه بكمية مناسبة وتجنب استهلاكها بشكل غير عقلاني، مما يدعم استدامة هذا المورد العريق.