
من ضمن أفلام مسابقة مهرجان الأفلام السعودية في دورته الحادية عشرة، يبرز فيلم «ثقوب» كعمل درامي يتجاوز حدوده السردية التقليدية، ليغدو تجربة نفسية وأدبية على حد سواء. الفيلم من إخراج عبد المحسن الضبعان، وتأليف مشترك بينه وبين الكاتب فهد الأسطا، وهما اسمان لا يفرّطان في التفاصيل، ولا يركضان خلف الإرضاء السهل، بل يدفعان بالمتفرج إلى منطقة غير مريحة، تلك التي يتحرك فيها الفن نحو الأسئلة لا الأجوبة، ونحو الانكشاف لا الاستعراض. ثمة أفلام تُشاهد لتُنسى، وأخرى تُشاهد لتبق.. فيلم ثقوب ينتمي إلى الفئة الثانية، لكنه لا يفعل ذلك عبر الخطابة أو المشاهد الصادمة، بل من خلال الصمت، والتكثيف، والمراوغة الفنية. منذ المشهد الأول، يُدرك المتلقي أنه لن يُمنح مفاتيح واضحة، بل عليه أن يخوض التجربة بكامل حواسه، وأن يصبر على الغموض، لأن الضوء ـ إن وُجد ـ لن يظهر إلا في نهايات متأخرة جدًا، وربما لا يظهر أبدًا. يروي الفيلم حكاية راكان، رجل في الأربعين من عمره، خرج من السجن بعد تورطه في قضية تطرف ديني، ليجد نفسه عالقًا بين ماضٍ لم يمت، وحاضر لا يرحم. يبدأ العمل في ورشة ميكانيكا، يحاول أن يعيش بصمت، لكنه سرعان ما يجد نفسه مضطرًا لمواجهة وجوه قديمة، وأحداث غير مكتملة. شقيقه تركي يبدو أقرب إلى مرآة مشروخة له، بينما والدتهما فاطمة، تغرق في غيبوبة إثر حادث غامض، يفتح الباب على مصراعيه لكل الأسئلة القديمة والجراح المدفونة. ليس الفيلم عن الإرهاب، ولا عن التوبة، ولا عن المجتمع حتى، بقدر ما هو عن ذلك الشرخ الخفي الذي يحدث في الإنسان حين يفقد الثقة في المعنى، في القدر، وفي الآخرين. ثقوب، كما يشير عنوانه، لا يتعامل مع الحكاية بوصفها مسارًا خطيًا، بل كنسيج مثقوب، كل ثقب فيه يحمل قصة ناقصة، أو إحساسًا غائبًا، أو لحظة رفضت أن تندمل. اللافت في الفيلم هو هذا التقاطع بين السيناريو المحكم والإخراج المتكتم. فالنص ـ رغم ما يحتويه من طبقات درامية وتفاصيل اجتماعية ـ لا يُقدم بطريقة سردية تقليدية، بل من خلال تكنيك بصري شديد الوعي. الكاميرا تتحرك بهدوء، اللقطات طويلة، والإيقاع بطيء مقصود، كأن المخرج أراد للمشاهد أن يشعر ببطء الوقت داخل نفس راكان، أن يختبر ثقله، أن يشعر باختناق اللحظة، لا أن يمر بها مرورًا سريعًا. هذا الخيار الجمالي ـ وإن بدا مخاطرة ـ كان جزءًا من هوية الفيلم، وهو ما جعله، في الوقت نفسه، عملاً يصعب على المشاهد العادي فهمه من أول وهلة. فـ ثقوب لا يشرح نفسه، ولا يقدّم إجابات، بل يتخفى وراء صوره، ويتورّى خلف نبرته المنخفضة، كأن المعنى فيه يُقال عبر ما لا يُقال. الأداء التمثيلي، بقيادة مشعل المطيري، الذي حصل على جائزة النخلة الذهبية لأفضل تمثيل في مهرجان الأفلام السعودية الحادي عشر، جاء متناغمًا مع هذا التوجّه، فشخصية راكان لا تصرخ، لا تنفجر، بل تنهار داخليًا بهدوء، وتُقاوم بتعبيرات شحيحة، وصوت منخفض، وقلب منهك. فيما قدمت مريم عبد الرحمن حضورًا شبه صامت لكنه مشحون، استطاعت من خلاله أن تزرع الأسئلة دون أن تنطق بها. حتى الشخصيات الثانوية، بدت وكأنها تحمل ثقوبها الخاصة، وجراحها غير المعلنة. الفيلم من إنتاج أيمن النقيب وعبد الرحمن الطخيس، وقد سبق أن عُرض في مهرجانات مرموقة مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ومهرجان القاهرة السينمائي، قبل أن يدخل في منافسة مهرجان الأفلام السعودية، في دورة بدت وكأنها تنحاز للأعمال التي تختبر الحدود بين الشكل والمضمون، بين التسلية والفن، وبين اللغة السينمائية واللغة المجتمعية. لكن لا يمكن إغفال أن جمهور السينما – في عمومه – جمهور سريع الملل، خاصة إذا لم يُمنح خيطًا واضحًا يقوده إلى قلب الحكاية خلال الدقائق الأولى. فالمشاهد العادي لا ينتظر كثيرًا، وإن لم يلمح الحدث المحفّز (Inciting Incident) في وقت مبكر، فإنه يشعر بالتيه، وقد يغادر القاعة دون اكمال المشاهدة. وهذا ما حدث فعلًا مع بعض المتفرجين أثناء عرض ثقوب، إذ أن الفيلم بلغ منتصفه دون أن تنجلي فكرته أو تتضح دوافع شخصياته، ما جعل التلقي مرهونًا بالصبر والتأويل، لا بالمتعة المباشرة. ورغم أن البعض قد يرى أن ثقوب بالغ في الغموض أو صعّب التجربة على المتلقي، إلا أن هذا لا يمكن فصله عن طبيعة الفيلم ذاته. فهناك حكايات لا تُروى بسهولة، وثقوب لا تُسدّ، وأفلام لا تُصنع لتكون مفهومة بالكامل، إنما لتظل جزءًا من هواجسنا، تلاحقنا حتى بعد انتهاء العرض. ربما لا يطرح الفيلم قضايا بقدر ما يطرح شعورًا… شعور الوحدة، العزلة، المحاولة الخجولة للعودة إلى العالم، ومحاولة فهم الذات وسط زحام لا يعترف بالضعف. إنه فيلم عن رجل.. وربما عن جيل بأكمله، خاض تجارب قاسية، وخرج منها بلا يقين. “ثقوب” ليس فقط عن راكان، بل عنّا جميعًا حين نحاول أن نُرمّم ما لا يُرمم، ونغلق ثقوبًا لا تنغلق. عن تلك الأسئلة التي نحملها معنا في صمت، ونخشى أن نطرحها حتى على أنفسنا. وفي النهاية، ربما يتوارى المعنى.. لكنه لا يختفي.