نعمة الوطن.

أتأمل في عودة السوريين إلى وطنهم، وهم يطوفون في أنحائه، ويتحسسونه شبرا شبرا، كأنما هي عودة إلى الوطن من سفر بعيد، عودة إلى حضن الأمومة بعد فراق، وإلى بيت الأسرة الكبير بعد أن كانوا ينامون على الأرصفة في البلدان الأخرى، أو يسكنون في أربطة أو مخيمات خيرية في منفى خارج حدود الوطن. الوطن هو المعادل الموضوعي للأم، بكل ما فيه من أمن وإيمان وسكينة وسلام.. الوطن أن تنام على الرصيف دون أن تشعر بالغربة، فتستيقظ وقد تحوّل إلى فراش وثير.. أذكر يوم قلت لصاحبي حين عدنا من سفر بعيد وقد دخلت للتوّ حدود الوطن: اتركني أكمل ما بقي من الطريق مشيا على الأقدام، فقد دخلت الآن صالة منزلي! هكذا يتبدّى لك الوطن حين تكون في رحلة سفر، فكيف سيكون الحنين إليه والتعلّق به حين يكون المنفى اضطرارا بسبب تهجير أو حرب تأتي على الأخضر واليابس؟! لكن ما قيمة أن تشعر بوطنك بعد أن تفقده، أو بعد أن تضطرك الأقدار إلى أن تكون منفيّا خارج حدوده؟ إنه شعور الفقد، وهذا الشعور وإن تجذّر عميقا في النفس إلا أنه لا يصلح ما أفسدته الأيام إلا أن يكتب الله للنازحين عودة إلى أرض الوطن لإعماره من جديد. أما القيمة العليا والشعور الأجمل والأكمل فهو أن تقدّر نعمة الوطن وأنت ترفل في خيراته وتنعم في ظلاله وتجوب دروبه ومسالكه وتتنفّس هواءه وتعيش داخله في أمن وسلام. ذلكم هو الشعور الحقيقي الذي يبني الأوطان ويعمرها كما لو كان الوطن بيت الأسرة وصالة المنزل وشارع الحي الصغير! إن المرء الناضج والإنسان العاقل ليس بحاجةٍ إلى سفر بعيد، ولا إلى منفى اضطراري، ولا إلى حرب تهلك الحرث والنسل، لكي يدرك قيمة الوطن ويشعر بحاجته إلى بلد عامرة مزدهرة. وما أجمل أن يكون الوطن هو البيت الكبير الذي يدرك جميع ساكنيه مسؤولية الحفاظ على صيانته وحراسته من دعاة التخريب فينهضون بكل ما يحقق له الأمن والازدهار.