«صلاة القلق» الفائزة بالبوكر 2025..

الرواية التي كشفت زمن الخرافة .

الحكاية هي مجموعة من الأحداث المتوالية توهم المتلقي بحدث أو واقعة من قديم الزمان مرت عليها دهور تنقلها الأجيال مشافهة حالها كحال صنوف الفن الشعبي من عادات وتقاليد وألغاز وأغاني وأمثال ...الخ . تقول د/ نبيلة إبراهيم في كتابهـــا « المقومــــات الجماليـة للتعبيـــــر الشعبــــي «أن المستمع للحكاية الشعبية أو المثل يتلقاها مشافهة فلا مجال لديه للتأويل بخلاف النص المكتوب الذي يحتمل أكثر من تأويل عند إعادة قراءته ولذلك يضيف الراوي أو يحذف بما لا يخل بأصل الحكاية المروية .» وفى رواية صلاة القلق نجد تطبيقاً حيّاً لذلك ففى نجع المناسي يحدث خللا فى نسق الحياة فى النجع، فنال منهم الوباء وتحولوا فى تلك الصحراء إلى قوام بشرى يحاكى فى خموله السلاحف، فبعد سقوط حجر نارى على بعد عدة كيلو مترات من المكان تتوالى الأحداث غير المفهومة فخيم الصمت على رؤوس المارة والقعود، ورجفت القلوب، بين يوم وليلة يتحول الشيخ أيوب برأسه إلى كتلة عظمية جرداء خلت من الشعر وتتحرك الأحداث ليصبح أبيه وليا تحمل الشموع إلى جوار ضريحه فى الجبانة مساء كل جمعة «الشيخ جعفر «،أما خليل الخوجة فهو الممثل الرسمى لنجع المناسي المزروع فى خاصرة الصعيد وقد وزع على الناس طبعة جديدة من جريدة صوت الحرب وكان يطبعها فى صفحة واحدة باللونين الأحمر والأسود وكان يعلل ذلك بأن الدولة ترشد الإنفاق فتقلل عدد الورق المطبوع، والغالبية العظمى من الأهالى لا يعرفون القراءة، ولم يعرف أهالى النجع سر هذا الانفجار الذى أضاء السماء، فخليل الخوجة الرجل العارف بشئون الحرب عزا الأمر إلى سقوط نيزك قرب النجع ،أما باقى الناس فشاع بينهم أن القمر الإصطناعى الذى تحدث عنه الرئيس جمال عبد الناصر ربما سقط فى تجربة إطلاقه الأولى، بينما تحدثت صحيفة صوت الحرب عن سقوط النيزك قرب نجع المناسي،وظل الشيخ أيوب وهو الخبير بشئون الدنيا يستشعر الخطر وظل يتساءل فى نفسه عن ذلك الذى خلق نجعا منزويا وأسلم مصائر العباد إلى رجل مجهول الأصل مثل خليل الخوجة وكأنه نبى مبعوث فى قوم نسيهم الله وكأنها بقعة ممحوة من السجلات فالخوجة جاء إلى النجع فارا من أمر غير معلوم فتناثرت حوله الشائعات، فقال البعض إن وراءه ثأرا فى الأقصر، وقيل إنه لص فر بأموال الناس ثم أخذت صورته تتحسن تدريجيا فشاع إنه ضرب فى الصحراء حتى إستقر به المقام فى النجع.غير أن النجع يتذكر صراخ الخوجة وقد إكتشف تمثال الزعيم عبد الناصر قد إنشطر نصفين فصار نصفه السفلى فى موضعه كمحطة للطيور المتعبة بينما حمل الخوجة رأس التمثال وكتفه وذراعه ووضعه فى صدر داره وقال الخوجة فى رمز يدل على الإنصياع إن التمثال للزعيم الملهم صنعه مصابو الحرب فتعجب السامعين من تفرغ المصابين لنحت التماثيل لمن زج بهم فى الحرب .لكن هناك حكاية شعبية تسرى فى النجع وهى حكايات بطلها تمثال الزعيم فهو مبتور الرأس لكنه ينشط بعد المغيب ليجوب الطرقات كأنه يتفقد أحوال رعيته . الخوجة رجل النجع الأول. الشيخ ابن ولى الله الشيخ أيوب يطيب خاطر الأمهات الثكالى اللاتي يقاتل ابناؤهن فى الحرب ويقول لهن قريبا بمشيئة الله تنتهى الحرب بينما يلتف الجميع حول الخوجة الذى شارك فى مظاهرات رفض التنحى وأصبح رجل النجع الأول،وتمنى الشيخ لو يلقى بالخوجة خارج أسوار النجع لكن ما طرأ على النجع كبله فقد تسرب وباء ملعون، وتجسد القلق كوحش طاف بنعومة فوق أسطح دور النجع وإستيقظ الشيخ ورؤوس الناس قد غدت أشبه برؤوس السلاحف،فانفضت مجالس السمر والوحيد الذى نجا من اللعنة هو حكيم ابن الخوجة الذى يواظب على الاستماع إلى أسطوانات عبد الحليم حافظ مستخدما جهاز جراما فون أحضرة أبوه بعد نصر 67، ودأب على إستخدامه فى إذاعة أغنيات تجد الحرب والنصر والثورة . المرأة التى قتلت إبن شيخ النجع . لا تخشى وداد الموت هكذا تعلن ذات الثمانين عاماً داخل حكايتها فى الرواية لكن الوحدة هى أعظم ما تخشاه فى نجع موبوء الخطوات فيه محل ترقب والأنفاس معدودة ، تحتفظ بتاريخ خاص فتسرد أنها عاشت واقعاً آخر فقد إنخرط اجدادها فى العمل مع الخواجات فهم خبراء يعرفون الدروب ومواضع الآبار والجبال التى تسرح فيها عروق الفضة والذهب ومرت السنوات فتبخر الخواجات مع الفضة والذهب وحدهم الفراعين هم من ظلوا يحرسون تاريخا لم يتوقف عن نبشه الأحفاد وهى فى هذا النجع أصبحت عجوزاً وحيدة لا يقرأ عليها من الصحف الإ ورقات صوت الحرب، وفى نجع محاط بالالغام، وفى الليل يطاردها كابوس مرعب لرضيع له ثلاثة عيون وهو يرميها بأقذع العبارات وأقبح الألفاظ ويرشقها بوابل من مترادفات الشؤم وخيانة الأمانة والسحر وجلب الشرور وتسخير الجن، وتستيقظ وقد بلل العرق ملبسها وفراشها، وهى التى عاشت حياة عامرة بالحكايات، وقد حاولت أن تجعل من «شواهى مساعدة لها فى هذه المهمة لتحفظ الأسرار وتشهد معها الطقوس لكن طبيعتها الغجرية طغت لتغدو بمرور السنوات رسولة البهجة والفرحة فترقص فى الأعراس . النجع الذى تتحدث عنه الرواية؟ النجع الذى تتحدث عنه الرواية هو نجع غائب فى الحقيقة غائب عن خرائط الدولة الرسمية بينما قوافل التجار والغجر تمر بالنجع وكأنها شهادة وجود لهذا النجع المحاط بحكايا شعبية ومرويات أخرى تؤرخ لوجوده كمعجزة القديس الذى مر فى أرضه فأحال حقولها إخضرارا فكان ما روته الجدة كما تروى الرواية :» تفجرت تحت عصاه ترعة ماء سرت نحو الجنوب ثم مضى القديس يجر من خلفه عصاه شطر الشمال،فكانت المياه تشق الأرض لتلحق بعصاه،حتى غاب بين كثبان عالية تحجب القرى القريبة،وقد منحنا ترعة إمتدت فى الشمال حتى التقت ببحر يوسف وغاصت فى جنوب الأرض حتى قيل إنها امتزجت بترعة فى الأقصر «.، ثم جاء السيل ليغرق النجع على رؤوس ناسه بعد ذلك بعدة عقود، ثم اخضرت الترعة الصحراء ونمت على ضفافها الغيطان،لكن الراوى يعلن أن الأحفاد قد منحوا صكوك المعجزة للزعيم عقب بناء السد فى أسوان فأضحى من شيد الحجر أكثر قداسة ممن شق الأرض وفجر الينابيع أى منح مالم يمنح للقديس ذاته . يشير الكاتب محمد سمير ندا إلى مولد فكرة روايته فى آخر صفحات العمل ففى عام 2019 قرأ كتابا للكاتب الصحفى اللبنانى بشير عزام عنوانه :» حين حدث مالم يحدث، فولدت فكرة هذه الرواية، ويروى قائلا عبرت عن الفكرة من خلال قصيدة كتبتها بالعامية المصرية وعنوتنها ب «يوم مشهود « وبمرور الوقت وبطريقة لا أعرفها تحولت تلك القصيدة إلى هذه الرواية . نهاية الرواية تجيب على كل الأسئلة والتعقيدات التى ربما تأتى فى ذهن القارئ عن حكيم ومقتل أمه، سر خرسه وماذا وراء لسانه المقصوص عمدا فهو راوى الحكايات التى يكشف سره بنهاية الرواية فهو مطالب أمام الطبيب النفسي بالكشف عن أوجاعه وتفسير علته. فصول الرواية تبدأ بمقدمة من خمسة أسطر عن مريض لا علاج له سوى الكتابة، ويقول نصها :من الحتمى أن يواصل المريض الكتابة،لابد من تشجيعه وتحفيزه على تفريغ كل ما يختزنه من صور ومشاعر وكلمات حبيسة، الأوراق والأقلام هى صلته الوحيدة بالعالم،فإن إنقطعت هذه الصلة سقط فى عوالمه البديلة،الحبر هو ما يغذى طاقته ويروى خياله ليبقيه حيا فإن جف الحبر ذبل الجسد واستعدت الروح للرحيل ( من تقرير الطبيب المعالج 1988) . سنعرف فى النهاية وخلال الحكى أيضا أنه أبكم وممارسة الكتابة هي وسيلة تواصله الوحيدة مع العالم المحيط به،ومن هذه العبارة يبدأ السرد ويعود من حيث بدأ.. الأحداث يرويها ثمانية أفراد – كل حسب رؤيته وأحزانه الخاصة ومناماته ومخاوفه . أغنية لعبد الحليم لماذا ؟ يعد عبد الحليم حافظ بالنسبة للبطل«حكيم» أنيس الصمت ورفيق الحلم، فمع موت العندليب تتيبس أوصال البطل ويصف ذلك بقوله معلقا على حادث وفاته فى لندن : إخترقت حلقي صرخة مكتومة وثقبت صدرى قشعريرة،لقد أغمد القدر سيفا جديدا فى خاصرتى .» النجع وأهله المنعزلين عن العالم لمدة عشر سنوات يرضعون الخديعة كل يوم عن طريق خليل الذي يحتكر المذياع وينقل لهم أخبار النصر ويتلقى منهم ضريبة المجهود الحربي.