قراءة في مجموعة (أنثى تحرر الوجع ) للشاعر إبراهيم حلوش..

استبطان لاشتعالات الداخل في ضِرامها الكلّيِّ على مشارف الإشراق الصوفي والجماليّ الإبداعيّ.

في مطلع الديوان نصٌّ افتتاحيٌّ تحت عنوان (نافذة) يفصح فيه الشاعر عن مفهومه للشعر و يشكّل إضاءةً أولى يمكننا أن نبدأ بها للولوج إلى رحاب الرؤيا وفضاءاتها التي تتشكّل عبر نصوصه ؛ فالقصيدة تتجلّى في ثلاثة مشاهد : جمرة مُحرقة و موجة مُغرقة ومُزنة مُنعشة رافعة تصعد بصاحبها في عالم المجاز (وفق تعبيره) وقد رأيت أن الانتقال من هذه النافذة إلى البوابة عبر العتبة الرئيسة للديوان أمرٌ منطقيٌّ ، فالعنوان يرنكز على ثلاثة محاور دلاليّة : الأنثى والوجع و التحرير ؛ أما المدخل الثالث للديوان فهو القصيدة التي تحمل عنوان الديوان ؛ فهي بيت القصيد والولوج من خلالها إلى رحابه ربما كان منطلقاً مشروعاً ؛ فالقصيدة تناظريّة الشكل في الأصل أعاد الشاعر ترتيب أشطرها في أشكال متنوّعة تبدو صدىَ مرسوماَ لطريقة الإلقاء وتعبيراً عن لواعج الشعور ، وهي - بلا آدنى شك - تسهم عبر نُظُم التكوين في صياغاتٍ واضحة الدلالة تتواءم مع أنغام التفاعيل وانسيابات بحر البسيط وترجيعاته الوجدانيّة المشوبة بالشَّجن ، وقد بدا هذا الشكل للقصيدة منسجماً مع نبرتها الغنائية وإيقاعها النفسي ، وهو ما ارتقى بالقصيدة من تقليديّة شعر الغزل بوصفه غرضاً شعرياً في التصنيفات المألوفة إلى تجاوز ذلك في الارتقاء إلى كونه استبطاناً لاشتعالات الداخل في ضِرامها الكلّيِّ وتصاعدها في التقاط إشعاعاتها الأنثويّة في انهمارها الوجدانيّ وطوافها بنبضات وجوديّة كامنة تتقلب على جمر التجربة الإنسانية متجاوزةً سحر الأنثى في مفهومه (الجندري) إلى علياء الكينونة و الحضور الوجوديّ. تتنامى القصيدة منذ الإطلالة الأولى في شكل بوْح هاديء يتوسّل بالصورة الفنّية المشهديّة في انطلاقها من السكون إلى الحركة وبعدها الذاتيّ الداخليّ في انبثاقها إلى الخارج ، وهنا تتبدّى في تمظهرها الكوني (غيمة بكر) و دلالتها الكئائيّة القريبة التي تكتمل بها اللقطة المجازية (الدموع المنهمرة من الغيمة البكر) والبكارة تشفُّ عن عن تلقائيّة مدهشة تقود المتلقّي إلى عالم تفنى فيه الذات لتتحوّل إلى تجلٍّ كونيٍّ يرتقي في سلم الشعور إلى مدارج علويّة ، ومن الإغفاء في حضن الغيم إلى الحُلُم المُسجّى على كف القصيد في انتقالاته النفسيّة وحراكِه الوجداني ، ومن الحلم إلى الوهم الذي تتماهى فيه الذات الشاعرة ، وقد أحاط به الجمال في ثلاثيته الطبيعية (الندى و الورد و المطر) وتتنامى الخواطر و المشاعر من الحلم و الوهم إلى الحزن حدَّ الانشطار ، وهنا يعمد الشاعر إلى تفكيك الحروف ونثرها عموديّاً ليوحي بفعل الانشطار عبر تشكيل الكلمة التي تتوالى حروفها واحداً إثر الآخر في شكلٍ عموديٍّ متداعية بما يوحي بانفعالاته الحقيقيّة ، متوقّفاً في خطاب بوْحيٍّ صريح يدلي فيه بهمومه وارتباكاته ، وتتوالى المشاهد في تجلّيات تتداعى عبر التعبير عن لحظات التأزُّم التي تبلغ ذروتها في صِوَرٍ متعدّدة مكتظّة بالمجاز (الروضة) التي تتمثل في شكل تبدو معه وكأنها ( أنثى تكدّرت وصمتت عن الغنااء ) وتتحول الأمنيات إلى (نسوة انقطع تواصلهن معه ينتظرن وقد علل انقطاعه عنهن بشتى الأعذار) ثم الشكوى المياشرة التي يترجمها مجازاً مُدهشا في ثوب استعاريٍّ محتشد بالحركة و الحياة: لم يطرق الفرح بوابات مسغبتي من أول الشدو.. حتى هدني الكبر وتتداعى كلماته الشاكية في مشاهد كنائية متتايبعة (الحيرة في صورة الوحل وانتحار الخضرة في الحقول) وتتداعى الصور في حسٍّ جماليٍّ إبداعيٍّ في حقول دلاليّة تستنبت في مفرداتها أشكالاً من التعبير المجازي تتمازج فيه جماليات اللغة بمفرداتها المُقتَطَفة من حقولها البكر مع سحر الأنوثة : إبداع الفن مع سحر الأنوثة (الشذا و الماء والزهر) من أين جئت؟ وكيف أنسبت في وتري؟ وكيفأحييت حرفاً كان يحتضر؟ وهنا تنطلق من قيودها الكلمات متغنية بالجمال المطلق في بعده الأنثوي في تجلياته النفسيّة (قنديل المشاعر) والكونيّة (عجائب الكون سبع أنت ثامنها) ويأتي الختام متمثّلاً في أيقونة العطاء (منذ اهتنقت غصوني حصحص الثمر) الأنوثة والشعر صنوان لا يفترقان في يقين الشاعر ؛ فهو يتغنّى في الشعر كما يتغنى بسحر الأنوثة ؛ ففي قصيدته (الشعر كائننا العظيم) يصوغ هذه الرؤيغا (بوصلة الحنين و بداية التغريد تنثال من كبد السماء) موجات من المشاهد ترتسم في صور فنية ، و في حمولة مجازيّة مترعة من خلالها الشعر في نسغ الموجودات كلها : بسملة المدائن والمواسم تفترع المكان و الزمان وأيقونة العشق و التجليات وأغنية العشق و الأقحوان ؛ فهو بذلك يسري في عروق الكون والكائنات و الأشياء و الأحياء يتغلغل ويلتقط جوهرها الكلّي ويتمثلها في الجزئيات و الفرعيات في اليقظة و النوم وفي المجردات و المحسوسات . الأنوثة محور رئيس في الديوان يتجاوز إشكلية النسويّة في بعدها الأيديولوجي ؛ ويقف بها على مسافة قريبة من مشارف الإشراق الصوفي والجمالي العذري والشعري الإبداعي ؛ فهي تلهم وتحاور : غنائيّة ملحميّة كونيّة ذاتية ، وحسيّة وجدانيّة ، فهي كوجه الشمس وهي شَهدٌ وشذىً بيضاء صبوح رقيقة كالنسيم ، حقل من فاكهة ناضجة وسنبلة فارهة وفلٌّ وندى ونرجسٌ مُتضوّعُ ؛ هذه مواصفات المرأة التي فنيَ فيها وتوحّدت فيه ، يتناوب فيها الوصف و السّرد ، تستهلُّ مقاطعها المرسومة على فضاء الصفحات بأناقة وعناية، بعد أن فكّك قُوامَها التناظريَّ الخليليَّ ، وتتالت في شريط مصوّر نابض بحيويّة أنثويّة فجاءت صورها على شكل سيناريوهات حافلة بالحركة الدالّة على العشق ، وصف في قُوام السّرد :أي ما اصطلح على تسميته (صورة سردية) حين يستهلها بالفعل الماضي : (قبّلتها ورشفت وباتت تمررني وأحاط بها اللهيب) يدنو بها من شهوانيّة حسّية ثم ينتشلها من تلك الوهدة ليرتقي بها إلى شفافيّة روحيّة ، وعبقريّة التشكيل عنده تتمثّل في هذا الجدل الموّار بين حركة الحواس ولواعج التوق و الشوق ، وهي سمة فنية بارزة : قبلتها لكنني لم أشبع أنثى كوجه الشمس عند المطلع ويمضي الشاعر في ديوانه على هذا النهج بين حسّيةٍ فاتنة و وجدانية متوهّجة وكونيّة شاهقة تتجلّى عبرها أنثاه التي انحلّت كينونتها في جوهرانية عميقة تلتقط ظلال الأنوثة وتسرّبها إلى قلب الشعر تتلامح في قاموسه وتضيء دواخله و تقود مشاعره ، يسترق النظر إلى مفاتنها معشوقة ملء العين و الحسّ ، و حبيبة تسكن القلب و الفؤاد يتخيّلها أمامه، يسدي لها النصح متقمّصاً شخصية الناصح الأمين تارةً، كما في قصيدته (خمرية الثغر) و العاشق المتيّم تارةً أخرى ، كما في (أنثى كوجه الشمس ) وشاكياً باكياً كما في (موجة بكاء) وللوطن تواشيحُه وتراتيله في قصائد الشاعر يتماهيان في(هالات البياض) تتداخل الجوارح والتضاريس والأزمان والأكوان في وجدان الشاعر، ففي العينين فجر الخمائل ، وفي الروح نوريضيء السنابل ، وإذا كانت الضفاف ملاذ الحالمين و المتعبين فإنّ الشعر في حروفه استرواحٌ من نوازل الدهر ومتاعب النفس ، وعبر هذه الثنائيات المتداخلة : الفراش و الغيمة والنبض و الجدول والأشعار و الفضائل و البسملات والقلوب المخضّلة والحب و الرؤى و الضياء و القطرات والأهازيج إلى آخر هذه التداعيات تتشكّل الصِّور بإيقاعاتها الصوتيّة ومعجمها الطبيعي الروحي ، والأنواء والأصائل و الطهر و الصفاء ومناجاة القلوب ، والخاتمة ىالتي يجتمع فيها شمل المُطلقات التي صاغ من معانيها صِوَره وتشكّلت غُدرانُه وتتابعت مشاهده : تراتيله الإحسان هالاته التقى وراياته الشماء من ذا يطاول قصائد فيها أصالة العمود الشعري بأنغامه المترفة وصوره المشرقة ومجازاته الموحية، و التشكيل الجمالي الذي يجترح العلائق بين عناصر الصورة متجاوزاً ظاهرها مُستبطِناً دخائلها ، موحياً بالظلال فاتحاً مدارات التأويل .