الأندية الأدبية ..

بين تكريس النمطية وصناعة التجديد.

في زمنٍ تتكاثر فيه المنابر وتتعالى فيه الأصوات حتى يُخيَّل إلى العامة بأنّ الشعر غدا متاحًا لكل من نطق، تبقى للقصيدة الحقيقية هيبتها التي لا تُنال بالادّعاء، ولا تُستدرج بالضجيج، بل تُكتسب بالكَدح في مجاهل اللغة، والتورّط الوجودي في أسئلتها الكبرى. ومن وحي هذا الإيمان بأن الشعر يجب ألا يكون إلا كما ينبغي له، جاءت هذه الوقفة الصادقة إن شاء الله تعالى؛ لا لتُصدر حكمًا، بل لتثير سؤالًا. ولا لتدين أحدًا، بل لتشير بما وسعها من محبة وحرص إلى بعض ما اعتور هذا المسار من عثرات. هذه الوقفة لا تبحث عن خصم تُعاركه، بل تبحث عن لغة تُنقّى من ركام الزيف، وتجربة تُستعاد من تحت ركام التمثل الواهن. فالقصيدة أمانة بأعناقنا نحملها كما حملها أسلافنا من الشعراء. وأنا هنا أحاول تحريض الشاعر والناقد على السواء، على أن يجددوا العهد باللغة والتجربة، لا بوصفهما وسيلتين فنيتين، بل باعتبارهما طريق وجود، ومختبر وعي. منصات ثقافية واجتماعية تُمثِّل الأنديةُ الشِّعرية والأدبيةُ في المنطقةِ الشرقية (وفي عمومِ العالمِ العربي تقريبًا) منصاتٍ ثقافيةً واجتماعيةً مهمَّة، تُسهم في صقلِ المواهبِ ودعمِ المبدعين. غير أنَّه، ومن خلالِ التتبُّعِ الحثيثِ للمشهدِ الشعريِّ المعاصر، يلوحُ في الأفقِ تساؤلٌ جوهريٌّ حول فاعليةِ هذه الأندية والملتقيات في الحفاظ على هيبة القصيدة العربية من جهة وتجديدِها من جهة أخرى، ومدى مسؤولية هذه الأندية عن تكريسِ قوالبَ جاهزةٍ في الكتابةِ تُعيدُ إنتاجَ ذاتِها في ثوبٍ مختلفٍ ظاهريًا، ولكنْ متماثلٍ جوهريًا. فمن حيث المبدأ، وُجدت الأندية الأدبية لتحفيزِ الإبداعِ واحتضانِ الأصواتِ الجديدة ورعاية المواهب وتوفير فضاء للارتقاء بالذائقة الجمالية. غير أنَّ التحوُّلَ التدريجي في طبيعةِ هذه الأندية جعلها في أحيانٍ كثيرة منصَّاتٍ تُكرّس نمطًا شعريًا معينًا، وتُعيدُ إنتاجَ ذائقةٍ واحدة، تنحازُ إلى الألفاظِ المصقولة، والصورِ المكرَّرة، والبلاغةِ التقليدية، على حسابِ المغامرةِ اللغوية، أو التجريبِ الشعري، أو كسرِ البنى القديمة. فتُنتجُ نوعًا من “الاستنساخ الأدبي” الذي يُغلق الباب أمام التجديد والتفرّد. والقارئ المتأمل للنصوصِ الخارجة من بعضِ هذه الأندية يُلاحظُ تشابهًا عجيبًا في الصور، والأساليب، والتراكيب، بل وحتى في القاموسِ الشعريِّ ذاته؛ وكأنَّ هناك “مُرشدًا غيرَ مرئي” يُوجِّه الجميع إلى الكتابةِ بنفسِ الطريقة، ممَّا يدفعنا إلى السؤال: هل الأندية الأدبية تكرس النمطية أم تصنع التجديد؟ أولاً: ثمةَ عواملُ كثيرةٌ تؤدِّي إلى إنتاجِ النمطِية المكرورة وتناسخ القوالب الجامدة، أبرزها: •البحث عن الاعتراف الاجتماعي:فحين ينضم الشعراء الشباب إلى الأندية بحثًا عن الاعتراف الاجتماعي والدعم الأدبي، يجدون أنفسهم مضطرين لمسايرة التيار الشعري السائد مما يؤدي إلى إنتاج نصوص متشابهة في الشكل والمضمون، حيث يكون الهدف الأساسي هو القبول داخل النادي بدلًا من التعبير عن الذات واثبات تفردها ومغايرتها. •العضوية الجماعية:إذ ينتمي أغلبُ الشعراءِ في منطقتنا إلى أندية أو ملتقياتٍ شعرية، ممَّا يُنتجُ مع الوقتِ بيئةً مغلقةً تؤثِّرُ في ذائقةِ الشاعر وتُعيدُ تشكيلَه حسب ما يُرضي الجماعة. •الاحتفاءُ بالأسلوبِ المكرور:ففي بعض الأندية ذات الطابع التقليدي، تُكافَأ النصوصُ المنضبطةُ بأساليبِ البلاغةِ المألوفةِ، بينما يُهمَّش التجريبُ والانزياحُ، ويُنظر إليه بريبةٍ أو تجاوزٍ للذوقِ العام. وقد لا يعود ذلك إلى سوء النية، بل إلى: الرغبة في الاستقرار الأسلوبي، والاطمئنان إلى ما “يُعجب الجمهور”، لا ما يُفاجئه أو يُربكه، الرهان على المقبول والمُتعارَف عليه، بدل المجهول والمُربِك، فالتجريب مغامرة، بينما النمط أمان، والخوف من الهُوِيَّات المغايرة التي قد تُخلخل السائد وتُربك بنية التلقي. وهكذا، يصبح النادي مركزًا لإعادة إنتاج ذات الذائقة، وذات اللغة، وذات الصور، بل وذات الإيقاع أحيانًا، مما ينتج عنه “أخوّة شعرية” قائمة على المحاكاة لا الإبداع. •الورشُ النقديةُ الموجَّهة: ففي بعضِ الأندية، تُوجَّه النصوصُ إلى نوعٍ معيَّنٍ من التعبير دون غيرِه، مما يخلقُ ضغطًا خفيًّا على الشاعر ليتواءم مع الذوقِ الجمعيِّ أو المعاييرِ التي يُمليها النادي أو المُنسِّق. •المسابَقاتُ والجوائزُ: في كثير من المسابقات، تُقيَّم النصوص وفق معايير تقليدية كلاسيكية تميل إلى تفضيل الشكل البياني والزخرفي على حساب المضامين الفكرية والوجدانية العميقة، مما يُفضي إلى إنتاج نصوص متشابهة في مظهرها، حيث تفتقر إلى خصوصية القصيدة الحديثة والتميّز الحقيقي. ثانيًا: الذائقة الجمعية المُهيمنة في الأندية ومفهومُ “الأخوَّةِ الأسلوبية” هناك ما يمكن تسميتُه بـ” الأخوَّة الأسلوبية” داخل الأندية، حيث تتشابهُ النصوصُ كما لو أنها خرجت من يدِ شاعرٍ واحد. وهذا لا يحدثُ اعتباطًا، بل نتيجةً لتواطُؤٍ ثقافيٍّ غيرِ واعٍ، يُرَوِّج لفكرةِ “النجاح الأسلوبي” أكثرَ من “التميُّز الإبداعي”. فيتحوَّل النادي إلى ما يشبهُ المدرسةَ المغلقة التي تُنتج “نُسَخًا” شعريَّةً تتكلَّم بلسانٍ واحد، وتُفكِّر بنفس الطريقة. فتكرار الكتابة في القوالب والأساليب لا يُعيقُ فقط تطوُّرَ الشاعر، بل يُشوِّهُ أيضًا الذائقةَ العامَّة ويُسطِّحُ مفهومَ الإبداع. ففي أجواء بعض الأندية، يتشكّل ما يُشبه “الحس الجماعي” حول ما يُعتبر شعرًا، فيؤدي ذلك إلى نشوء “رقابة غير مرئية” تفرض على الشاعر أن يكتب وفق هذا الحس. ومن هنا ينشأ الخوف من الاختلاف، ويغدو الانسجام مع الذائقة أولوية على حساب التفرد. فحين تُكرَّم القصائد الملتزمة بالأنماط التقليدية، ويُقابَل النص المختلف بالتجاهل أو حتى الاستهجان، سيُسهم ذلك في تعزيز فكرة أن “النجاح” لا يكون إلا عبر التقليد، لا الابتكار. فالقوالب الشعرية التقليدية لم تعد مجرد أدوات فنية، بل تحوّلت إلى سلطات تفرض حضورها في الوعي الجمالي للشاعر. فبدلًا من أن تكون الأوزان والصور والأنماط البلاغية أدوات للتعبير، أصبحت أهدافًا بحد ذاتها. وهذا التحوّل جعل الشعراء أكثر حرصًا على الاتساق مع النمط السائد، وأقل جرأة على الانحراف عنه، وكأن الخروج عن القالب يُعد خيانة للموروث أو تقليلًا من قيمة النص. هذه “السلطة الجمالية المقنّعة” لا تُعبّر فقط عن ضعف في الذائقة المؤسسية، بل تكشف أيضًا عن نوع من التنميط النفسي الذي يجعل الشاعر يقاوم كل ما يُشعره بالغرابة، حتى وإن كان هذا الغريب هو الشرارة التي تصنع التجديد. وكثيرًا ما تخلو من ممارسة نقدية جادة. فالنقد الموجود فيها غالبًا إمّا مجامل، أو انطباعي، أو قائم على الذوق الشخصي لا على أدوات نقدية دقيقة متماشية مع متطلبات القصيدة الحديثة بشتى أنواعها، فيَحُول ذلك دون الانفتاح على أنماط أخرى أو تجارب مخالفة. ثالثًا: الآثار الثقافية والمعرفية لتكريس النمطية. هذا التكرار لا يؤثّر فقط على الشاعر، بل يمتدّ ليؤثر في: الذائقة الجماهيرية: التي تبدأ بتفضيل النصوص المكررة على المغايرة، مفهوم الإبداع: الذي ينحسر ليتحول إلى مجرّد “إتقان” لشكل لغوي أو أسلوبي معيّن، والحركة الشعرية نفسها: التي تُصبح عاجزة عن تقديم أصوات تحمل رؤى جديدة أو أنماط تفكير مغايرة. رابعًا: الناقد بين التغييب وتفعيل دوره الحقيقي في تجديد الشعر. لا يمكن مقاربة إشكالية التجديد في النص الشعري، ولا مساءلة دور الأندية الأدبية في تكريس النمطية، دون التوقف الجاد عند موقع الناقد ووظيفته في هذه المنظومة. فالناقد، حين ينهض بدوره بوصفه فاعلًا ثقافيًا لا مجرد متفرج، قادر على أن يسهم في تفكيك البنى الجامدة، وإعادة تشكيل الذائقة، وفتح أفق مغاير أمام الشاعر والمتلقي معًا. غير أن المشهد الأدبي المحلي يكشف عن غياب الناقد، أو تغييبه عمدًا من مسرح التأثير. ففي كثير من الأندية، لا يُستدعى الناقد إلا لأداء أدوار احتفالية، أو لتقديم مجاملات ثقافية لا تتجاوز الانطباع السطحي. وفي أحسن الأحوال، يُحوَّل إلى متلقٍ صامت، لا شريك في البناء، بل شاهد على التكرار. إن إصلاح هذه المعادلة لا يتحقق إلا بتفعيل دور الناقد بوصفه شريكًا في الفعل الإبداعي، لا قاضيًا بعد وقوع الحدث. وهذا ما يُعرف بـ” النقد التكويني”، الذي يسهم في صياغة النص وتطويره من داخل ورش تفاعلية حوارية، لا من على منصات الإدانة أو المديح. كما يمكن للناقد أن يُحرّك الذائقة العامة من خلال كتابات نقدية جريئة تعيد طرح الأسئلة حول معايير الجمال، وتُربك اليقين الشائع بما هو “جميل” أو “مكتمل”. ويتطلب هذا التحوّل أيضًا توسيع أفق القراءة النقدية، من خلال استحضار أدوات جديدة من مجالات متعددة كعلم النفس، والفلسفة، والسيميائيات، والنقد الثقافي، بما يمنح النص قدرة على التعدد في التأويل والانفتاح على آفاق جديدة من الفهم. بل إن وظيفة الناقد يجب أن تتجاوز النصوص لتطال المؤسسة الثقافية نفسها، فعلى الناقد أن يمارس نقدًا “مؤسساتيًا” لتحليل أداء الأندية كمنظومة إنتاج ثقافي. فيسائل أداء الأندية: هل تحتفي بالتجديد، أم تكرّس التشابه؟ هل تُقصي المختلف، أم تحتضنه؟ ولعل من الضروري أن تترافق هذه الرؤية مع خطوات عملية لتفعيل دور الناقد داخل الأندية، كإنشاء لجان نقدية مستقلة، وتنظيم أمسيات حوارية تُخصّص لنقد النصوص لا مجرد قراءتها. غير أنَّ الإنصاف يقتضي ألّا نُحمِّل الناقد مسؤولية الظاهرة كاملة، إذ إنَّ جزءًا كبيرًا من اشتغاله لا يُفترض أن ينحصر في تصحيح الأخطاء اللغوية أو التنبيه إلى الكسر العروضي، بل الأصل أن يتلقّى نصًّا ناضجًا – أو على الأقل واعيًا بأبجديات الصناعة الشعرية – ليتمكن من النفاذ إلى طبقاته الجمالية وتفكيك انزياحاته البلاغية والمعنوية. فالنقد في جوهره ليس وظيفة تعليمية بقدر ما هو فعل تأويلي وقراءة منتجة تُضيء ما خفي من أبعاد النص. ومن هنا، لا بد أن ينهض الشاعر بمسؤوليته الأولى في أن يُتقن أدواته، ويعي صناعته، ويقدّم نصًا ناضجًا أو واعيًا على الأقل، خاليًا من الأخطاء الإملائية والنحوية والعروضية حتى لا يُشغِل الناقد بما يجب أن يكون من البديهيات، فيعطّل بذلك أفق الكشف الجمالي، ويُقصي الناقد عن وظيفته التأويلية. فالمشهد الإبداعي الحقيقي لا يقوم على شاعر مروّض وناقد صامت، بل على شاعر مجدِّد وناقد شجاع. وبين الاثنين، يولد الشعر في صورته الأعمق: تجربةً حيّة، ووعيًا متحوّلًا، وفضاءً مفتوحًا على التجديد والابداع. خامسًا: نحو أنديةٍ تُحفِّزُ التجدُّد بدلًا من تنميط الشعراء. ليست المشكلةُ في وجودِ الأنديةِ الشعرية، بل في آليَّاتِها التي تحوِّلها أحيانًا إلى مؤسساتٍ لصناعةِ التشابه لا الاختلاف. ونحن اليوم بحاجة إلى مؤسساتٍ تحتفي بالفرادةِ لا بالتكرار، وتُحفِّزُ الانحرافَ الإبداعي لا الطاعةَ الأسلوبية، وتُنتجُ شعراء لا نُسَخًا. ولنا في جمعية ابن المقرب للتنمية الأدبية والثقافية خير مثال على ذلك. فالتجديدُ الشعريُّ ليس ترفًا، بل ضرورةٌ تُعيدُ للقصيدةِ وهجَها، وتمنحُ للشعر بُعدَه الحيَّ والمتجدِّد. ولكي تتحوَّلَ الأنديةُ إلى بيئاتٍ خصبةٍ تُنتجُ نصوصًا مغايرة، فإنَّ عليها: •تشجيعُ الانحرافِ الإبداعي: عبرَ فتحِ المجالِ أمام أنماطِ كتابةٍ جديدةٍ، حتى وإنْ بدتْ غريبةً للوهلةِ الأولى. •إعادةُ النظرِ في آليَّاتِ التحكيم والتقييم: بحيث لا يُكرَّمُ فقط من أتقن القالب، بل من كسرَه بذكاء. •استضافةُ تجاربَ شعريةٍ مختلفة: سواء في الشكل أو اللغة أو الرؤية، لتوسيعِ أفقِ الأعضاء. •تفكيكُ سلطةِ الذائقةِ السائدة: وذلك بعدم تكريسِ “الذوق الموحد” كمعيارٍ للجمال. •النقدُ الجريءُ والمباشرُ: لا من بابِ التجريحِ، بل من بابِ التنوير، حتى لا يبقى الشاعرُ أسيرَ تكرارِ نفسِه. •تثقيف الشعراء لا تدريبهم فقط: الناظم يتقن الوزن، لكن الشاعر الحقيقي يعرف لماذا يكتب، ومن أين تأتي لغته. وعلى الأندية أن تقدّم ورشًا في فلسفة الشعر وتاريخه وجمالياته، لا في علم العروض فقط. إعادة تشكيل الأندية ليست الأندية الأدبية مؤسسات جامدة بطبيعتها، بل هي كيانات قابلة لإعادة التشكيل والتوجيه. لكن بقاءها على ذات النمط يُحوّلها إلى سلطة شعرية خفية تفرض على المبدع أسلوبًا، واحدًا، ورؤية واحدة. فالتجديد لا يحدث صدفة، بل يحتاج إلى بيئة تحتضن السؤال بدل الإجابة، والانحراف بدل الانضباط، والتفرّد بدل التماهي. فالأندية الأدبية والملتقيات الثقافية تملك الفرصة لإعادة توجيه الحركة الشعرية في المنطقة نحو مسارات أكثر حيوية وتجديدًا. لكن هذا لا يتحقق إلا حين تعي أنها جزء من صناعة الذائقة لا مجرد منصة للاجتماع والتكريم. فالحل لا يكمن في إلغاء الأندية، بل في تجديدها من الداخل: عبر تطوير معايير الاختيار، وتعزيز حضور النقد، ودعوة التجارب المختلفة، وتشجيع المخاطرة الجمالية، واحتضان التجريب لا قمعه.