في حكايةٌ من الستينيات، للكاتب الفرنسي جورج بيريك..

أكثرَ مِما نحتاج... أقل مِما نَشعر .

حين عثرتُ على الأشياءِ، أو بالأحرى حين عثرت الأشياءُ عليَ، كان الأمر برمتهِ يشبهُ السقوط في وادٍ رملي مُتحرك ثم الخروجُ منه مرة أخرى لكن في قلب محيطٍ من الحقائق، إن هذه الحكاية الستينية نبوءةٌ مُطلقة للقرون القادمة، إنها حكايةُ إنسانينِ، زوجينِ شابينِ التهمتهما أشياء كثيرة، وغرقا بها حدَ الخواء، وما أزالُ أجد صعوبةً في وصفِ إحساسيِ المتفجعِ بكمِ الأشياءِ الثقيلةِ المتواليةِ، والمتسارعةِ بلا توقفٍ والتي- بحس التهكمِ- رماها جورج بيريك في روحِ القارئ وأتخمهُ بها إلى درجةِ الاختناق. هذا الشعورُ الحداثيُ، هذا السمُ اللامرئي الذي يُحيلُ الحياة إلى متاهةٍ مُضللةٍ ليس ثمة فيها من شيءٍ سوى الركض المتواصل بين أكداسٍ من الرغباتِ اللامتناهية. أشياءٌ كثيرة لن يُفهمَ مدلُولها الخاص سوى من يشعر باللهاث الروحي لجيروم وسيلفي، بهذا العداء المتلاحقِ، بالأسرةِ والمقاهي، وبشوارعِ باريس، والسفرِ ووجباتِ الغداء، والسينما، والحدائق، والأروقةِ، والخزاناتِ والتماثيل، والحقائبِ والكنباتِ، والرحلاتِ، وأرائك» شسترفيلد» والأكوابِ الفاخرة، مواسم التخفيض والحفلات، وشقتهما التي امتلأت بعشراتِ الأشياء التي لم تكن تبلغ نصفَ ما خزناهُ من قائمةٍ لانهائية في عقلهما، كانت باريس توحي لهما أنهما على عتباتِ التشظي، باريس اللامعة التي يتصدرُ بريقها كُل المدن، أن لا يتقدما، وأن يبقيا في طورهما البسيط بينما تنهشُ عجلاتُ العصرِ روحيهما دون شفقةٍ، هذا ما لم يفهما كيف يتخطيانهِ. أحسا بالنقصِ، أحسا برغبةٍ هوسيه في نيلِ الثراء، بعجزهما عن مواكبةِ الموضةِ، والتطورِ، والبهرجةِ، ولم يشعرا سوى بالتذبذبِ والتيهِ في هذا الترحالِ الذي لا يرحم، كانا يشعرانِ أنهما يقفانِ في الوسطِ، ويخسرانِ حتى متعة الكآبة المملوءة، كان الامتلاءُ بالأشياء يرادفُ في معناهُ مفهوم السعادةِ التي ظلا يسعيان خلفها بسعارٍ لا يتوقف...لم يكن بيريك يُغالي في إغراقنا « بالأشياء» التي لا يكاد القارئ يجد من بينها منفذاً، فبين عطلِ السفرِ، والسينما، والصور، وكيف تتكون الثروات؟ والأحلام المتصاعدة التكرار عن الأوراق المالية، وقطع الفضة، والأمسيات الليلة التي لا تنتهي، والمسارحِ والمتاحفِ، والبحيراتِ الهادئة، تباغته على حين غرةٍ-حتى في دهشةِ التخمة بالأشياء- إحساسٌ بالتجمد، وبتسربِ الحياة نفسها...أتذكرُ مشاعري حين شعرا أن العالمَ لا يقدمُ لهما شيئاً، على الرغمِ من سرعةِ الاحتراقِ الذي يتلظى في نفسيهما إلا أنه لم يقدم لهما شيئاً زائداً. كان الأمر أشبه بغريقِ يفيضُ الماء من عيونهِ، أو تائهٍ في وسط صحراء تلاطمه سراباتها، بل جيشٌ كاملُ من السرابِ والوهمِ، كانت حياتهما بالنسبةِ لعدد هائلٍ من البشر أكثر نعومةٍ وخفة، وفي حيزٍ من الاكتفاءِ الذي يُسهمُ في جعل زوجينِ ما يزالان في مقتبلِ العمر جاهزينِ للعيش الآنَ، ولرسمِ دروبٍ من الطموحاتِ لاحقاً، لكنَ» الآن» هذهِ بدت شيئاً يصعبُ الامساكُ بهِ في الأشياء، في هذا السباقِ الباذخِ والذي يوفر أساليب عيشٍ دائمةَ الجوعِ لما يشبهُ اليوتوبيا اللامعة. وكان حسُ غيابِ الوقتِ موجوداً على الدوامِ، لأن الساعات متخمة، وبدينة بكل الأشياء التي ابتلعتهما دفعةً واحدة، ولعلهما استطاعا أن يشعرا- حين تسنح الفرصة للتفكير بعيداً عن الصخبِ والاستهلاكات- أن ثمة سحرٌ ما في أيامهما، أن السعادة مُمكنةٌ في وضعهما العادي، لكن بيريك لم يتوقف عن إشعارِ القارئ بهذا التَعبِ الروحي الذي ترصدت له الحداثة السريعة بمقتنياتها الشديدة التفاصيل، فحلت إثر هذا بوادر الاختناق النفسي، ولم يكن بمقدورهما أن يظلا تحت طوفانِ الإثارة واللهاثِ خلفَ سعادة ما زالا يوما إثر يوم يحلمانِ بها.. ولا يكتفيانِ. كان الانتقال من باريس إلى تونس يبدو فجائياً، كما لو أنه مشيٌ أثناء النوم لكنه كان عرضاً يحملُ في خلفيته اللاواعية رغبات سيروم وسيلفي بالإثارة والمغامرةِ والبحث عن تلكما الحياة، في أن تبدأ رحلتهما المنشودة الآن، من الصفرِ تماماً.. هذا ما يدفعهما إليه المجهول، لكنهما عانيا من العزلةِ الرتيبةِ المسمومةِ في صفاقس، هناكَ حيث شعرا بالوحدة، في اللاقرار، واللاوجود، كما لو أنهما ركبا قطاراً لن يتوقف أبداً، سباقاً ما يزالانِ يكررانِ في كل بداياتهِ: أين السعادة؟ وهوسهما بالثراء لم يكن سوى امتداداً لإحساسٍ ناقصٍ عبثي؛ أنهما لا يكتفيانِ. هذا الدورانُ المحمومُ لم يصل إلى شيءٍ، وحتى لو حازا ثراءً لأن المعضلةِ الأساسيةَ لم تكن في الوصولِ إلى شيءٍ، ليست في الأمكنة، ليست في مدينتهما الباريسية المتخمة، لكنها في الموقدِ الحداثي الجائعِ الذي أُضرمَ بداخلهما. جيروم وسيلفي كانا بطلا قصتهما التي رغبَ فيها جورج بيريك أن يحررهما من وطأةِ سعارِ عدمِ الكفاية، أن اللاشيء يتربصُ في نهاية كل الأشياء، والتي اعتقدا أنها منبعُ السعادة، لأنهما ظَنا أنها السبيل الذي يستطيعانِ من خلالهِ الفرار من الرتابةِ، والتي لم ترضي ذوقهما الحسي المملوء بالمتعِ والأشياءِ والتفاصيلِ المغرِقة، لكنهما بقيا في حالةِ العطشِ ذاتها، مغمورينِ بإحساسٍ دائمٍ بالجري، جريٍ خلفَ سرابِ موعود، لن يصلا إليهِ لأنهما لم ينظرا بعدُ إلى ما تعنيهِ الحياةُ في نفسها، أنها حتماً ليست فيما يملكانهِ أو يجبرهما الهوسُ على امتلاكهِ بل فيما يحسانهِ في داخلهما، ويقدرانهِ، أنهما تركا السعادةَ على مضمارٍ مجهولِ النتائج، وركضا بعيداً عنها.