روح الجوف .. وجه الشمال السعيد وضوء الوطن المجيد.

لم يكن الماءُ في جوف هذا التراب إلا حياةً تسري في عروق الأرض ، ولم يكن النخيل والزيتون إلا اخضراراً يملأ المدى بالجمال والنبض . هنا ابتدأ الإنسان حكايته الأولى، فصافح الجبال بجسارة روحه فبنى (مارد) و (زعبل)*. وعانق التراب العذب فزرع (نخلته) السامقة و (زيتونته) الفارقة . ذرعَ الصحراء بقلبهِ الجسور، وافترش اتساع الرمال براحلته ورسم على الرمال والصخور ما حفر في ذاكرة الوجود الإنساني ضياءً يصافحُ الخلود. هُنا الحضارة والجسارة، التاريخ الثمين والواقع المكين، هنا ابتدأت الحضارات وامتدت الثقافات، هنا بنى الإنسانُ فكره ومجده، صنع من المدى شيئاً عظيما، ومن التراب قلاعاً وحصوناً منيعة، ومن الفكرِ أدباً وثقافةً و أشعاراً بديعة. هُنا ابتدأ الإنسان صناعة المكان، فأثرى الوجدان وملأ الأذهان، هنا ازدهرَ الفكرُ والفنُّ والبيان، ومضت الحضارة بوجهها الفينان ، عبرت الأزمان ولوّنت المكان بالنقوش الفريدة، والفنون المجيدة، بالحكايات الخالدة والقصائد الرائدة. هنا انبلج ضوء البشرية و هنا تجلّت معالم الإنسانية ، شاهدةً على دهشة البناء و قدرة الإنسان على تجاوز المعقول، و فرادة الإبداع و اكتمال الوصول. فلقد أشارت الكثير من الدراسات التاريخية إلى أن “قرية الشويحطية” في منطقة الجوف أقدم موقع أثري استوطنه الإنسان وهي من الآثار التي تعود إلى العصر الحجري. وماتزال الجوف مخبوءة بالتاريخ الزاهر والتراث الباهر، وما اكتشاف موقع “نحت الجمل” مؤخراً في مدينة سكاكا عام ٢٠٢١م والذي يرجّح الباحثون أنه أقدم موقع نحت في العالم وفق دراسة أعلنت عنها هيئة التراث إلا دليلاً على أننا أمام إرثٍ تاريخيٍّ ضخم وامتدادٍ إنسانيٍّ سحيق. فمن العصر الحجري مروراً بالعصور والحقب المتباينة حتى العهد الإسلامي وصولاً للعهد السعودي الذي أتى ليوطّد عُرى العراقة وآفاق الثقافة ليبعث الإرث التراثي الثقافي من جديد. ونلحظ اليوم أن منطقة الجوف تشهد حراكاً تراثياً ثقافياً نوعيّاً، وازدهاراً في حركة السياحة التراثية فمع مشروع التنقيب الأثري الذي دشّنه سمو أمير منطقة الجوف الأمير فيصل بن نواف بن عبدالعزيز حفظه الله عام 2021م توهجت حركة البحث والدراسات في مجال الآثار وتاريخها من مُختلف المؤسسات والأفراد في هذه المنطقة التاريخية العامرة. ثم أتى مشروع (روح الجوف) الذي أطلقه سمو أمير منطقة الجوف الأمير فيصل بن نواف بن عبدالعزيز مؤخراً إلا استكمالاً للمرحلة التنموية الاستثنائية التي تعيشها منطقة الجوف في ظل الرؤية المضيئة، فسموّه يؤكد في كل مرة على أن التراث هو هوية الإنسان وملامحه الثقافية وجذوره المتينة و وقوده المتوهج نحو التحليق في فضاءات و ثقافاتٍ يستزيد منها و يزيدها فكراً و حضارةً و نماء. و يأتي هذا المشروع لتحفيز السياحة التراثية في منطقة الجوف، ويعد من أبرز المشاريع التنموية في المملكة العربية السعودية لثلاثة أمور: 1| الجانب الحضاري: ينطلق المشروع من فكرة ثقافية، تأكيداً على مكانة الجوف التاريخية وعمقها الثقافي والحضاري ، الذي تجاوز كونها أرضاً تاريخية تحتوى على معالم تراثية ومواقع أثرية إلى كونها أرض حراكٍ ثقافي قديم وممتد إلى ماقبل سوق دومة الجندل التاريخي الشهير الذي كان ميداناً للأدب والشعر والسجالات الفكرية والثقافية والتبادل التجاري الهام. 2| الجانب الإعلامي: لهذا المشروع بُعد إعلامي ذكي للترويج لمنطقة الجوف كواجهة سياحية، وإبراز الوجه التنموي لهذه المنطقة التي تُعد اليوم عاصمة الطاقة المتجددة لاحتوائها على أضخم محطات توليد الكهرباء في المنطقة، وهي سلة غذاء الوطن كونها المنطقة الأخصب تراباً والأوفر ماءً والتي تضم أعظم المشاريع الزراعية والتنموية في المملكة العربية السعودية. بالإضافة إلى كونها إحدى أبرز المناطق الأثرية بامتياز. 3| الجانب الاقتصادي: إن إبراز الجانب التراثي والمزايا التي تتمتع بها المنطقة كالطاقة المتجددة نظيفة الاستخدام وقليلة التكاليف، بالإضافة إلى مقومات الاستثمار الزراعي، والخدمات الناهضة والتسهيلات والتحفيز الذي تقدّمه المؤسسات الرسمية والمجتمعية، تدفع جميعها إلى زيادة الحركة السياحة والاستثمارية في المنطقة، كمنطقة واعدة و رائدة في العديد من المجالات. و ماتزال الجوف ماضية في حركة تنموية متفردة، استكمالاً لتجويد المكان وبناء الإنسان فكراً وثقافة واقتصادا ، ليصل بدوره البنّاء في صناعة الطموحات الوطنية الكبرى إلى أقصى التطلعات. الجوف أرض ملأى بالمقوّمات الفريدة وهي تسير اليوم بخطى حثيثة و وثّابة بفكر وتطلعات وجهود الأمير فيصل بن نواف بن عبدالعزيز ، الذي أحدث حراكاً ثقافياً اجتماعياً اقتصادياً فارقاً ونوعيّا، ومازال سموّه ماضٍ في مسيرة النماء بفكرٍ متقد و عملٍ جبّار. أخيراً أقول: هُنا صنعنا من الأحجارِ إعجازا من اتساع المدى فكراً و ألغازا هنا تجلّى من الطينِ الرطيبِ لنا إرثٌ و صُغنا من التاريخ إنجازا * شاعرة وكاتبة منطقة الجوف *(مارد) و (زعبل) قلاع تاريخية في منطقة الجوف.