«مازال العراق ظميئاً إلى حكمته»..

وداعا .. شاعر الوجع العراقي «موفق محمد».

ودّعت مدينة الحلة في يوم الجمعة (16/05/2025)، الشاعر والأديب العراقي الكبير موفق محمد ، المعروف بـ”أبو خمرة”، الذي شيّعه العشرات من محبيه وأبناء مدينته، بعد أن وافته المنية عن عمر ناهز 77 عاماً، إثر أزمة صحية ألمّت به مؤخراً. وانطلقت مراسم التشييع من منطقة الكرامة وسط الحلة، المدينة التي التصق بها الشاعر الراحل ولم يغادرها رغم شهرة كلمته واتساع تأثيره. ونُقلت جنازته إلى مثواه الأخير في مشهد ساده الأسى والدموع، على رجل كان صوتاً حقيقياً للوجع العراقي، ومرآة صادقة لأحزان وطنه.  «يعد موفق محمد رائداً من رواد كتابة الحزن العراقي من خلال قصائده التي جسّدت ما مر به الوطن من ويلات وحروب وألم إلى أن اكتسب لقب (شاعر الوجع العراقي) لنقده الواقعَ المرير، ويُعد الشاعر الراحل واحداً من أبرز الأصوات الشعرية في العراق، وصاحب بصمة فريدة في القصيدة الشعبية الحديثة. ارتبط اسمه بالوجع الإنساني والسياسي . فجع في تسعينيات القرن الماضي بإستشهاد ولده ، الذي ظل يرثيه بقلب مكسور حتى رحيله ، وكتب الشاعر وهو الموجوع بالفقدان ، فقدان ولده الشهيد ، المهندس الشاب : «ما ناح طير على الشجر إلّا اعله نغمة صوتك..» هو موفق بن محمد بن أحمد أبو خمرة، ولد بمحلة الطاق في مدينة الحلة سنة (1948)، وفي نشأته أحبّ المتنبي والجواهري والسياب، وتأثر بـ (بابلو نيرودا) ، نشر شعره منذ سنة 1967م بعد نكسة حزيران وهو من جيل الستينيات الذي يطلق عليه (الموجة الصاخبة). شارك في الكثير من المهرجانات الشعرية في العراق وسويسرا والكويت وأسبانيا . وهو يعد شاعرا محرضا ومقاوما وجريئا، أصدر المجموعات الشعرية الآتية : عبديئيل، بالعربان ولا بالتربان، غزل حلي ، سعدي الحلي في جنائنه عام 2015 والاعمال الشعرية الكاملة عن دار سطور عام 2016 ، وهو احد الشعراء العراقيين الذين يحملون ارث العراق الحضاري والشعري والنضالي ، وظف الشاعر المفردة الشعبية أو العامية في شعره مثل الأمثال والكنايات والحكاية وهو ما ميّز شعره عن غيره من أبناء جيله ، فهو نسيج وحده، من الملاحظات في تجربة موفق محمد الشعرية (على سبيل المثال لا على الحصر) ـ التعلق بالمكان - فهو أكثر الشعراء أرتباطاً وتعلقاً بمكانه ، ومدينته الوادعة (الحلة) ، ودوربها ، ومناطقها ، وبالتحديد (محلة الطاق) الغافية على ضفاف نهر الحلة، (الحلة) مدينة الشاعر والطاق مركزها وسرّة العالم ، ولا يذكر موفق محمد الا وتذكر معه الحلة التي ولد فيها ، ويردد دائما وهو يقول عنها «لم أكن شاعرا في يوم ما ... فانا راو لشاعرة اسمها الحلة»، معللا « انا احب الحلة لأني ولدت على بعد موجتين من نهرها « . حتى لحظة رفع الستار عن النصب الخاص به أعادة تلك المقولة. وفي ديوان «غزل حلي» وهو من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق كتب عن الحلة التي خصها بقصيدة طويلة «غزل حلي» هي فاتحة الديوان، يصف علاقته بمحبوبته الحلة : «ها أنا أحب الحلة فما زلت جنيناً في رحمها أسمع صوت أمي في هسهسة الخبز وفي نهرها الهادر بالحمام هذا النهر الذي مد ذراعيه وسحبني برفق من رحمها وخبأني وأراني ما في قلبه من تيجان وكنوز ولفّني في سورته» أقيم نصب الشاعر العراقي موفق محمد ليخبر الأجيال عن ممثل الوجع العراقي ، إنها سابقة فريدة في العراق شاعر تكرمه مدينته وليست جهة رسمية أو مؤسسة حكومية، ويكرم في حياته ، وأن يقام نصب لشاعر أو اديب من قبل أهله ومدينته ، ويمثل هذا العمل الفني تاكيدا واعترافا من أن هذا الشاعر ضميرا حيا يتمثل في إبداعه الشعري حزن وآمال شعبه ، وهذه الالتفاتة هي قصيدة جميلة من اهالي الحلة الى راوي مدينتهم « موفق محمد « (شاعر الوجع العراقي) . ولم يغادر موفق محمد منزله الأول، فقد ظلت الحلة ، حتى في ظلامها الموجع، منيرة في روحه ، تمنحه الالهام والاحتجاج والتحدي، وترشده وترشدنا نحو ذلك الحلم الذي رافق الشاعر منذ ما يقرب من خمسة عقود، يوم أبدع قصيدته (الكوميدياالعراقية)، وهي سيرة البلاد ، ليبدا مشواره في نزيف الكلمات: «عشرة أيتام كنا حين ينام النهر ننام في منتصف الليل وفي محلة الطاق حيث ينحت النهر خصره تأخذ أمي مكانها في الشريعة فيأتي النهر الى حضنها وبصوتٍ أعذب من كل مياه الأرض تهمس في أذنه دلل لول يالنهر يبني دلل لول فيغفو من خمر في بحتها وترضعنا من نعاسه لننام» موفق محمد ، المعلم والشاعر والانسان والزاهد عن المناصب، والراغب بالابتعاد عن الأضواء ويميل الى الجلسات مع الأصدقاء الحميمين، حيث يجد الاطمئنان والانسجام ، عندها تتوهج شعريته ويضفي عليها مخزونه من تجربته الشعرية الطويلة ،ولم يزل موفق محمد ملتزما بعدم انبهاره بالأضواء، فلا تحركه الصحف ولا تبهره أضواء الفضائيات، لكن تستفزه الكلمة وتحرك أشجانه تلك المفردات التي يطبعها من القلب فيكتب أشعاره من نزيف الروح. وبرحيل موفق محمد، يفقد العراق واحداً من أبرز شعرائه، الذين ارتبطت قصائدهم بوجع الناس وهمومهم اليومية انه عشق الوطن في الحياة والموت , عشق مدينة الطفولة لتكون هوية تحمل في وجدان الشاعر ارث كبير ممتد عبر العصور التاريخية انها الحلة الفيحاء, بابل الحضارة , بابل القانون, بابل حمورابي ونبوخذ نصر, بابل الفرات والمزيدية, بابل صفي الدين الحلي عاشق الفرات وصوت العشق الحلي في صوت سعدي الحلي والمفعم بحبها موفق محمد الذي تطهر منذ ولادتها بماء نهرها وسمي موفقا لانه ولد في ظلال نهرها وشبع حبها شغعا من نهد نهرها المثقل باحلام الطيبين . «أرجو ألا يخاف أحد فأنا أحب الحلة لا لأنها مدينتي فما زلت جنيناً في رحمها اسمع صوت أمي في هسهسة الخبز وفي نهرها الهادر بالحمام هذا النهر الذي مد ذراعيه وسحبني برفق نون رحمها..» ولكن الشاعر ليس كل شعره مليء بالسوداوية كحيطان محلاتنا ومدننا وهي تعلن عن الالاف الشهداء عبر عقدين من الزمن انه شاعر يحلم بوطن وشعب سعيد، في رحم هذا الحلم يقودنا في قصائده الى بر النجاة وهو حلم الشاعر بغد ِ زاهر للعرقيين: يا بشرى هذا عِراق» أيها الشيخُ البهيُّ المتوهجُ شباباً ما زال العراق ظميئاً إلى حكمتكَ وأنت تجوب السجونَ والمنافي والصحارى وقطاراتِ الموت فاتحاً جُرحه في جبهتك التي تنزفُ طيناً ودماً من أجل خلاصه فما من سفينةٍ قادرةٍ على حمل العراقيين جميعاً غير سفينتكَ..»  فسلام لروحه من الشعب الذي أحبه. الرحمة والخلود لروح فقيد الأدب والشعر العراقي، وألهم الله ذويه الصبر والسلوان . *كاتب عراقي