
منذ الأزل، ظل الإنسان يبحث عن مواد بناء تتواءم مع بيئته وتحقق له الاستقرار والأمان، فكانت التربة من أولى العناصر التي اعتمد عليها في تشييد مساكنه، لتشكل الطين لاحقًا مادة أساسية في عمارة المجتمعات القديمة، في المملكة حيث تشكل الصحراء قلب المكان، برزت حرفة البناء بالطين كفن معماري أصيل يعكس هوية المجتمع، ويمزج بين الوظيفة الجمالية والاحتياجات المناخية والبيئية. هذه الحرفة التي ازدهرت في مدن وقرى المملكة لقرون طويلة، ليست مجرد أسلوب بناء، بل هي انعكاس لذاكرة المكان وإرث ثقافي يروي تاريخ الأجيال. واليوم، في ظل الاحتفاء بعام الحرف اليدوية 2025، تتجدد الدعوات للحفاظ على هذا الفن وإعادة إحيائه، باعتباره شاهدًا على الإبداع السعودي الأصيل في العمارة التقليدية. المادة الأولى للبناء البناء بالطين في المملكة لم يكن وليد المصادفة، بل جاء استجابة طبيعية لخصائص البيئة الصحراوية، حيث كان الطين متوفرًا بكثرة، وسهل التشكيل، وذا قدرة عالية على العزل الحراري، استخدم سكان نجد والحجاز والأحساء الطين في تشييد منازلهم وقصورهم، وكانت عملية إعداده تمر بعدة مراحل تبدأ بجلبه من “المطينة” خارج التجمعات السكنية، ثم عجنه بالماء وخلطه بالتبن لزيادة تماسكه، قبل صبّه في قوالب مستطيلة تُجفف تحت أشعة الشمس لتشكل اللبن، الذي يُستخدم كحجر بناء رئيسي. أما في بعض المناطق، فقد اعتمدت طريقة البناء بالعروق، حيث يُبنى الجدار مباشرة بالطين المخلوط بالتبن دون تشكيله في قوالب، وهي طريقة أكثر متانة لكنها تحتاج إلى وقت أطول، كما كانت الأسقف تُدعم بجذوع الأثل والنخيل، مع استخدام الجص لتزيين المجالس والأسوار وإضفاء طابع جمالي على البناء، هذه التقنيات لم تكن مجرد وسائل للبناء، بل هي انعكاس لفهم عميق للمواد الطبيعية المتاحة وطرق توظيفها بكفاءة. لعب “الأستاد أو الأستاذ” دورًا جوهريًا في صناعة البناء بالطين، وهو الحرفي المسؤول عن تخطيط المباني والإشراف على تنفيذها وفق المعايير المتعارف عليها، كان الأستاد يتمتع بخبرة واسعة، ويحرص على تحقيق توازن دقيق بين المتانة والجمال، كما كان دوره يتعدى كونه مجرد مقاول أو مهندس في زماننا الحاضر، إذ كان يحمل مكانة اجتماعية مرموقة، تُعززها مهارته في تنفيذ القصور والمنازل بأعلى درجات الدقة والإتقان، ومن الأسماء البارزة في هذا المجال، الأستاد حمد بن قباع، الذي ترك بصمته في عمارة الرياض، بعد إشرافه على تشييد عشرات القصور والمساجد والمباني العامة، بما في ذلك قصر المربع وعدد من قصور أبناء الملك عبدالعزيز، وكان بن قباع نموذجًا للحرفي الذي أتقن فن البناء الطيني، ووضع أسسًا مهنية صارمة لا تزال مرجعًا في دراسة العمارة التقليدية السعودية حتى اليوم. عمارة الطين لم تقتصر حرفة البناء بالطين على البيوت الشعبية، بل امتدت إلى القصور والأسوار والمباني العامة، مما يعكس مكانتها في العمارة التقليدية للمملكة. ففي الرياض، برزت قصور مثل قصر المربع الذي شُيّد في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز (طيّب الله ثراه)، كأحد أهم نماذج البناء الطيني الذي يجمع بين البساطة والفخامة، كما عُرفت الأسوار الطينية التي أحاطت بالمدن مثل الدرعية والرياض وحائل، حيث كانت تُبنى بسمك عريض يحقق الأمان والاستدامة لعقود طويلة. هذه القصور والأسوار لم تكن مجرد مبانٍ جامدة، بل كانت تتسم بوظائف دفاعية واجتماعية، حيث تضم ساحات داخلية وأبراج مراقبة، ونقوشًا زخرفية تعكس الحس الفني للحرفيين السعوديين آنذاك، كما أن بعضها حافظ على صلابته حتى اليوم، ليصبح شاهدًا على قدرة البناء الطيني على الصمود أمام الزمن، رغم التغيرات العمرانية الحديثة. حل مستدام يُعَدّ البناء بالطين في المملكة مثالًا حيًا على التكيف الذكي مع الظروف المناخية القاسية، تتميز الجدران الطينية بسماكتها التي تُمكّنها من امتصاص الحرارة خلال النهار وإطلاقها تدريجيًا أثناء الليل، مما يُوفر بيئة داخلية مريحة دون الحاجة إلى أنظمة تبريد أو تدفئة صناعية، هذا التفاعل الطبيعي مع المناخ يجعل المنازل الطينية دافئة في الشتاء وباردة في الصيف، محققةً كفاءة عالية فيما يخص الطاقة. إضافةً إلى ذلك؛ يعتمد تصميم هذه البيوت على تهوية طبيعية مدروسة، حيث تُوجد فتحات صغيرة في الجدران لتجديد الهواء، ويُسهم الفناء الداخلي في خلق تيارات هوائية معتدلة. هذه الحلول المعمارية تعكس فهمًا عميقًا لعلم البناء المناخي، وتُبرز قدرة المعماريين التقليديين على تطوير استراتيجيات تتناسب مع البيئة المحلية. كما أن هناك العديد من الدراسات الحديثة التي أكدت أن المباني الطينية تتمتع بمرونة وقوة في مواجهة الظروف المناخية المتطرفة، مثل موجات الحرارة والجفاف، مما يجعلها خيارًا مستدامًا في ظل التغيرات المناخية الحالية، كما أن استخدام مواد محلية في البناء يقلل من استنزاف الموارد الطبيعية ويُسهم في تقليل البصمة الكربونية، مما يدعم مبادرات الاستدامة البيئية. كما يُعزز البناء الطيني من الترابط بين الإنسان وبيئته، حيث يُمثل انعكاسًا للهوية الثقافية والمعمارية للمجتمعات المحلية، هذا التراث المعماري يُسهم في الحفاظ على البيئة الطبيعية والحضارية، ويُوفر حلولًا سكنية تتسم بالبساطة والكفاءة في آنٍ واحد، ومع تزايد الاهتمام بالاستدامة، يُطالب بعض الخبراء بإعادة النظر في تقنيات البناء الطيني ودمجها في العمارة الحديثة كحلول موفرة للطاقة وصديقة للبيئة. فن يحمل ذاكرة المكان هناك علاقة وثيقة بين الملك عبدالعزيز (رحمه الله) والبناء بالطين، حيث كانت القصور والمباني التي شُيدت في عهده تُبنى بهذه المادة التراثية، بما يتناسب مع الطابع المعماري للمملكة في ذلك الوقت، حيث كان البناء الطيني هو الأسلوب السائد في نجد وغيرها من مناطق المملكة، لما يتميز به من قدرة على التكيف مع المناخ المحلي، إضافةً إلى توفر مواده الأولية وسهولة بنائه وصيانته. ويُعد قصر المربع أحد أبرز الشواهد على اهتمام الملك عبدالعزيز بالبناء الطيني، فقد أُنشئ في منتصف الثلاثينيات الميلادية ليكون مقرًّا لإقامته وإدارة شؤون الدولة. وقد بُني القصر بأسلوب معماري نجدي تقليدي، مستخدمًا اللبن (الطوب الطيني المجفف) والأخشاب المحلية، مع مراعاة التفاصيل المعمارية التي توفر الراحة والاستدامة، كما تم تشييد العديد من القصور والمباني الطينية في عهد المؤسس. ومما يروى أن الأديب أمين الريحاني قد زار قصر المربع، فقرأ بيت الشعر التالي مكتوبًا على أحد جدران القصر: لسنا وإن كرمت أوائلنا يومًا على الأنساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا عندها، قاطعه الملك عبدالعزيز مصححًا: “نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت تبني أوائلنا، ولكننا نفعل فوق ما فعلوا”، هذا التعديل يعكس رؤية الملك عبدالعزيز الطموحة لتجاوز إنجازات الأجداد وبناء مستقبل أكثر تقدمًا، كما أن هذا الموقف يُظهر حرص الملك المؤسس (رحمه الله) على الاستفادة من التراث والتقاليد، مع السعي الدائم للتطوير والتفوق على ما سبق، وهو ما تجلى في النهضة العمرانية والتحديث الذي شهدته المملكة في عهده. البناء الحديث مع دخول البناء المسلح إلى المملكة في منتصف القرن العشرين، بدأ الطين يفقد مكانته أمام مواد مثل الأسمنت والحديد، خاصة مع الطفرة العمرانية التي شهدتها البلاد، غير أن العقود الأخيرة شهدت جهودًا متزايدة لإحياء هذا النمط العمراني، سواء في مشاريع الترميم التي تهدف للحفاظ على المدن التاريخية مثل الدرعية، أو في العمارة الحديثة التي تستوحي عناصر البناء الطيني، ولكن بتقنيات أكثر تطورًا. في ظل رؤية السعودية 2030، تبرز مشاريع كبرى تسعى إلى إحياء الطابع العمراني التراثي، مثل تطوير القرى التراثية، وتحفيز الاستثمار في البيوت الطينية كنُزل سياحية، فضلاً عن تشجيع الحرفيين على إعادة إنتاج الزخارف الجصية والنقوش المعمارية التقليدية. كما أن الجامعات والمعاهد بدأت في دراسة تقنيات البناء الطيني كجزء من الحلول المستدامة التي تلائم البيئة الصحراوية للمملكة. شاهد على الإبداع إن البناء بالطين ليس مجرد تقنية قديمة، بل هو فن معماري يحمل روح المكان ويعبر عن هوية المجتمع السعودي. ومع احتفاء المملكة بعام الحرف اليدوية 2025، تتجدد أهمية هذه الحرفة كجزء لا يتجزأ من التراث المعماري، وكحل مستدام يتماشى مع توجهات الاستدامة في العصر الحديث. ورغم تطور العمارة، يبقى الطين شاهدًا على إبداع الإنسان السعودي، الذي استطاع أن يحول أبسط المواد إلى صروح معمارية تتحدى الزمن، وتحمل في طياتها ذاكرة الأجداد وسيرة المكان.