محمد سمير ندا يتحدث بعد البوكر:

عبدالحليم حافظ شريك أساسي في المرحلة الزمنية للرواية.

في موسمٍ تنافست فيه أكثر من مئة وعشرين رواية عربية، توّج الكاتب المصري محمد سمير ندا بجائزة البوكر عن روايته الثالثة صلاة القلق، التي وصفتها لجنة التحكيم بأنها «تجربة جمالية وفكرية توقظ القارئ على أسئلة وجودية». ولد ندا في بغداد عام 1978، ونشأ بين عواصم عربية عدة، حاملاً معه أسئلة الهوية والمنفى. بدأ الكتابة عام 2016، ووجد صوته المتفرّد في صلاة القلق، الرواية التي تمزج بين السياسة والحلم، والتاريخ والمصير الفردي. في هذا الحوار مع اليمامة، يتحدث ندا عن فوزه، وكواليس الكتابة، وأثر والده الكاتب الشهير سمير ندا، وعلاقة الرواية بالحلم والموروث والسياسة: أشعر بحرية إضافية *هل جاء فوزك بالجائزة مفاجئًا لك، خاصة أن “صلاة القلق” هي روايتك الثالثة؟ وما الذي غيّره هذا الفوز فيك؟ -الفوز انتصار شخصي، يثبت لي أن ثمّة جدوى من الكتابة، الأمر هنا يتعلق بالتحقق الأدبي قبل العائد المادي، وعلى عكس المتوقع، لا أشعر بأيّة ضغوط بعد الفوز، بل أشعر بحرية إضافية، وثقة أكبر، والمسؤولية ستظل ثابتة، شعرت بالمسؤولية قبل أن أتوقع الفوز بأيّة جوائز، وسأظل محافظًا على هذا الشعور من دون مبالغة أو مغالاة. * قلت إن الرواية فازت بصفتها عربية، رغم أنك كاتب مصري، ما الذي تعنيه بذلك؟ -لأن الرواية تتناول شأنًا عربيًّا، وإن كان الفضاءان الزماني والمكاني في مصر، فهذا مجرد نموذج لجزء يعكس في القلب منه الكل. أتفهم دوافع الحماسة * لماذا أثار فوزك جدلًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي؟ وكيف قرأت الحماسة المصرية للفوز؟ -الحماسة أتفهم دوافعها، فمن المنطقي أن يفرح المصري لفوز رواية مصرية، والمغاربة لفوز رواية مغربية، وهكذا... أما الجدل والاتهامات غير الأدبية وغير المنطقية، فيُسأل عنها من اختلقها. نعم.. هناك من رفض الرواية * دعنا نعود إلى لحظة البداية: كيف كُتبت “صلاة القلق”؟ وهل صحيح أنها قوبلت بالرفض من دور النشر المصرية؟ -عملت على النص لثلاثة أعوام ونصف، وأمضيت عامًا إضافيًّا في التحرير والتدقيق، والواقع أنها رفضت من أكثر دار نشر، أو تم تجاهلها فلم يصلني أي رد من بعض الدور، ولكنها قبلت في ميسكلياني، وكان هذا من حسن الطالع. * أشرت سابقًا إلى أن فكرة الرواية جاءت بعد قراءتك لكتاب “حين حدث ما لم يحدث” للكاتب اللبناني يوسف بشير، كيف أثّر هذا الكتاب فيك؟ -الكتاب كان يتصور التاريخ البديل، فولدت فكرة اللعب مع التاريخ، وربما يبدو للبعض أنني اختلقتُ تاريخًا بديلاً، وهذا صحيح جزئيًّا، لكني عمدت إلى تصوير كيفية تزييف التاريخ، والانتحاء بكل من الواقع والتاريخ إلى مسار موازٍ. الأساس هو الهم الشخصي * ذكرت أن خلف الرواية قصيدة بعنوان “يوم مشهود”، ما العلاقة بين الشعر والسرد في هذا العمل؟ ومن هم الشعراء الذين أثروا فيك؟ -الأدب جامع لأكثر من صنف ولون أدبي، وقد تبتدئ من أحد الصنوف، وتنتهي إلى صنف آخر، ربما لم أقصد أن تتحور الفكرة بين أكثر من جنس أدبي، ولكن الأساس هو الهم الشخصي، الذي لم أشعر بالكفاية بعد صياغته في صورة زجليّة، لذلك قمت بصياغته من خلال السرد القصصي فالروائي. أنا أحب الكثير من الشعراء، لكني متيم ببدر شاكر السياب، ونازك الملائكة ومحمود درويش على وجه الخصوص، وفي مرتبة خاصة لدي يستقر بيسوا، فهو ظاهرة إبداعية لم أجد من يضاهيها. عبدالحليم شريك في النص * اخترت عبد الحليم حافظ ليكون صوتًا داخليًا في الرواية يرافق بطلك حكيم، لماذا تحديدًا عبد الحليم؟ -لأنه شريك في المرحلة الزمنية للرواية، هو الصوت السري لذلك الزمن، كما أنه مشارك في النص ولموته دور أساسي في تحريك الأحداث ودفعها إلى الأمام. * تقنية الحلم حاضرة بقوة في الرواية، ما الدور الذي يلعبه الحلم في عالم “نجع المناسي”؟ -الحلم هنا يمثل حالتين متناقضتين، مواجهة الحقيقة المتمثلة في الهواجس والمخاوف المؤسسة للقلق، والهروب من الواقع إلى عوالم بديلة نتنفس فيها الحرية، أي كما ذكرتِ؛ الهروب من القهر والقلق، وتعويضه بالحرية. الشذرات التراثية *هناك حكايات شفهية كثيرة يمكن أن نقول انها تراث غنائي مروي يردده أبطال نجع المناسي، كيف ترى هذا التوظيف؟ وهل كان مرتبطًا بذاكرة صعيد مصر؟ -من المؤكد أنه وثيق الصلة بالتراث الشفاهي الحقيقي، وقد استحضرته بما يناسب النسيج السردي للرواية، ليدمغ صدقيّة حكاية متخيّلة، ويضفي عليها شيئًا من الحقيقة، هذه الشذرات التراثية كان لها دور في تقليص المساحة بين القارئ والنجع. * نجع المناسي في الرواية يبدو مكانًا محكومًا بسلطتين، سياسية ودينية، إلى أي حد كان ذلك مقصودًا؟ -كما هو الحال في كل مكان تحكمه سلطة شمولية، يظل الطرفان الأساسيان، السياسة والدين، في حالة كر وفر بين التواؤم والعداء، فهما يتصارعان على سيادة النجع، لكنهما يشتركان في الحرص على تدجين العقول، وتمديد رقعة الجهل، فما أسهل أن يُساق الجهلاء إلى تاريخ زائف. شواهي وحكيم * نجا شخصان فقط من وباء النجع: شواهي وحكيم، لماذا نجا هذان دون سواهما؟ -كانا الأكثر إيمانًا بالحرية، والأقل إصرارًا على الخلاص الفردي، هما الاختلاف عن السائد، والحياة التي تراوغ المأسورين داخل عقولهم. في المخطط الأولي للرواية، كان من المفترض أن يموت حكيم بعد أن يفرغ من سرد الحكاية، ولكنني خلال الكتاب، لم أستطع قتله، وهو من فرض عليّ أن يظل حيًّا، كبارقة أمل أخيرة. انهيار الحلم العروبي * كتبت عن زمن عبد الناصر، رغم أنك لم تعشه، كيف أنجزت هذا التماهي؟ -هذه صحيح، وقد كتبت بالفعل عما أعرف! ربما لم أعش ذلك الزمان، لكنني أنفقت خمسة وثلاثين سنة في رفقة أحد شهود العيان، وضحايا انهيار الحلم العروبي، كان أبي، سمير ندا، واحدًا ممن لم يتعافوا من شرخ الهزيمة وتداعي فكرة العروبة، كمان أنني رجل لقنته أمه في المرحلة الإعدادية كتب محمد حسنين هيكل، علاوة على عدة قراءات أخرى متنوعة عن هذه المرحلة، بين الرواية والسيرة الذاتية، على ذلك، ظل سمير ندا وتجربته التي لم تغادرني، هو أهم مصادر الحكاية. * اعتمدت الرواية في بنيتها على الشكل الدائري، هل كان هذا خيارًا جماليًا أم سرديًا بالدرجة الأولى؟ -حاولت في الاستهلال تمهيد القارئ لملاقاة ما ينتظره في الختام، فاقتبست قسمًا من التقرير الطبي الوارد في الختام، في مستهل الرواية، كما عمدت إلى تسمية الفصول بأسماء الجلسات، لم أفعل ذلك لحياكة دائرية الحكاية بالأساس، إنما لترك ومضات في طريق القارئ، تؤهبه لتعاطي الخاتمة التي تحوي عدة منعطفات. أحب القراءات الانطباعية * في نهاية الرواية هناك نوع من المراجعة الذاتية أو “نقد الرواية داخل الرواية”، لماذا لجأت لهذا الشكل؟ -لست بناقد، لكني أحب كتابة القراءات الانطباعية عما أحب من الروايات، وربما أفادني هذا في ضبط وإحكام الخاتمة الواردة في التقرير الطبي، حيث جعلت ردودًا واضحة لكل ما قد يحسب عيوبًا في فصول الرواية التي كتبها شخص واحد، لا أعرف إلى أي درجة وفقت أو أخفقت، لكن الزمن كفيل بالإجابة عن هذا السؤال. المشاريع القادمة *ماذا بعد صلاة القلق؟ -استكمال للمشاريع قيد الكتابة، لن أغير الجدول الموضوع للكتابة، ولن أستبدل بنص نصًّا آخر، أعمل على روايتين منذ سنتين تقريبًا، إحداهما شارفت على الاكتمال، وتدور في أكثر من بلد لفترة تربو على قرن من الزمن. * كيف تلقيت ردود الفعل بعد الفوز بالجائزة؟ وما الذي تعنيه لك البوكر؟ -ردود الأفعال أكثر من رائعة، وأكثر مما تمنيت كذلك، الفوز بالجائزة له شقان: شق مالي وهذا معروف، وشق أدبي وهو الأهم والأطول عمرًا، إذ يصبح لدى الكاتب قاعدة قرائية واسعة، كما يحظى باعتراف العديد من القراء والنقاد، وهذا أرى انه شديد الأهمية. *لمن تهدى الجائزة؟ -إلى أبي سمير ندا، وإلى الناشر شوقي العنيزي الذي آمن بي وقتما فقدت إيماني بما أكتب، وإلى أصدقائي في نادي القراءة. جينات الوالد * تبدو لغتك امتدادًا للراحل سمير ندا، والدك، الذي عايشت تجربته الطويلة، هل انعكس هذا التأثير في الرواية؟ -مؤكد أنه أفادني، وفيما يخص هذه الرواية تحديدًا، فقد كان سمير ندا أحد الملهمين لكتابة النص وإن كتبته بعد رحيله، ذلك أنه -كما ذكرت - أحد الذين شهدوا على وقائع تلك المرحلة فتأثر بها حتى توفاه الله. اللغة نتاج حصيلة واسعة من القراءات، علاوة على الجينات التي نقلت لي جزءًا يسيرًا من قدرات أبي اللغوية. *الرواية تقدم ثمانية رواة في نجع المناسي على زمن عبد الناصر، زمن الصوت الواحد وفق الرواية، هل عبر هؤلاء عن كل ما أردت قوله عن تلك المرحلة الزمنية أم أن بعض الأجزاء تعرضت للحذف والإضافة؟ -الرواية تعرضت للتحرير، وهو أمر لا يقوم به أحد غير المؤلف، أما المحرر فهو من يقدم المقترحات، لكنه لا يحذف من تلقاء نفسه أو يضيف كلمة بقلمه. من أهم التقنيات التي اعتمدتها في هذا النص، هي خدعة البوليفونية، أي إيهام القارئ بتعدد الأصوات، بينما الواقع أنني أقدم رواية تنتقد سياسة الصوت الواحد، من خلال صوت واحد! لكن هذا الصوت كان قادرًا على بث كل ما أردت من رسائل. الناشر كان مؤمنا بالرواية *دار النشر كان لها دور في ترشيح الرواية للبوكر حدثنا عن ذلك؟ -صحيح، البوكر لا تقبل ترشح الكاتب منفردًا، إنما تشترط الترشح من خلال دار النشر. وفي حالة صلاة القلق، كانت لدي شكوك حيال فرصها، لكن الناشر كان أكثر إيمانًا بحظوظها مني، لذلك فهو صاحب الفضل من بعد الله سبحانه وتعالى. *ماذا عن أعمالك السابقة؟ -رواية مملكة مليكة سنة 2016، وهي رواية تجمع كل عيوب الكتابة الأولى، وإن كنت أنوي العودة إليها بإعادة كتابتها عمّا قريب لو كان في العمر بقية، وهي رواية أجيال تصور مصر في الفترة بين عامي 1908 و2011، ثم رواية بوح الجدران سنة 2021، وهي سيرة شبه ذاتية لوالدي رحمة الله عليه. *كنت تتابع الفائزين بالبوكر وتكتب عنهم، واليوم أنت أحدهم، هل كان الفوز حلما يراودك؟ -الفوز بالبوكر العربية حلم يراود كل كاتب، ولكني بصراحة لم أتوقع أن يتحقق هذا الأمل في روايتي الثالثة. هي مفاجأة ما زلت أحاول استيعابها. القراءة وحطب الكتابة *دائمًا ما تصف نفسك بأنك قارئ بالأساس، ما مكانة القراءة في حياتك؟ -القراءة هي المهرب والمتنفس الحقيقي الوحيد في حياتي، وهي النار التي تشعل حطب الكتابة. *تقول أنك بعيد عن البهرجة الثقافية وأن عملك بعيد عن ساحة الثقافة، هل هذا إيجابي؟ -بالنسبة لي هو إيجابي، لأنني شخص ميّال إلى العزلة، ولكن هذه سماتي الشخصية، لذلك قد يعد هذا البعد أمرًأ سلبيًّا لدى آخرين، كل وفق ميوله وسماته الشخصية.